مآلات معركة "طوفان الكرامة" وانعكاساتها على الأزمة الليبية
لم يكن مفاجئاً إعلان المشير حفتر بدء الدخول إلى قلب العاصمة في إطار العديد من التطورات المهمة
أعلن قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، في 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بدء حسم معركة طوفان الكرامة التي أطلقها الجيش في أبريل/نيسان الماضي من أجل تحرير العاصمة طرابلس من المليشيات المسلحة المسيطرة عليها.
ويأتي ذلك عقب 8 أشهر من التقدم التدريجي للجيش على محاور العاصمة طرابلس، سعى خلالها إلى فتح ثغرات باتجاه العاصمة جنباً إلى جنب مع تعزيز التجهيزات والاستعدادات من أجل اقتحام طرابلس في التوقيت المناسب.
عقبات الحسم السريع
يمكن القول إن تأجيل الجيش الوطني قرار دخول العاصمة طرابلس على مدار 8 أشهر مضت، يرجع إلى عدة أسباب، يمكن تناولها على النحو التالي:
أولاً: معضلة المدنيين:
حيث إن دخول العاصمة طرابلس يتطلب استخدام الجيش أسلحة ثقيلة، وهو ما يرتبط بمخاوف استهداف المدنيين المقيمين بالعاصمة في ظل تقديرات بوجود نحو مليوني نسمة بها، وبالتالي فإن ذلك سبب رئيسي في تحجيم تحركات الجيش، واضطراره للتحرك البطيء نحو العاصمة من أجل تحقيق مكاسب تدريجية بدلاً من تحقيق مكسب خاطف على حساب المدنيين.
وكان المشير خليفة حفتر قد ذكر في تصريحات صحفية، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أن "الجيش بإمكانه حسم المعركة في يوم أو يومين عن طريق اجتياح كاسح بالأسلحة الثقيلة من جميع المحاور، لكن ذلك سيؤدي إلى دمار المدينة وخسائر كبيرة في صفوف المدنيين"، وبالتالي فإن إدراك الجيش الوطني لخطورة الحسم السريع على حساب المدنيين كان هو السبب الرئيسي في استمرار المعركة كل تلك المدة.
ثانياً: المعضلة التركية:
يمكن القول إن الانخراط التركي في الأزمة الليبية يعد معضلة حقيقية أمام حلحلة الأزمة بشكل عام وحسم معركة تحرير طرابلس بشكل خاص، خاصةً مع استمرار أنقرة في مدّ مليشيات طرابلس بالأسلحة المتقدمة، والتي يأتي على رأسها الطائرات التركية المُسيّرة، علاوةً على نقل المقاتلين والإرهابيين من سوريا إلى طرابلس، ضاربةً بكل القوانين الدولية والقرارات الأممية عرض الحائط.
كذلك فإنه لم يعد خافياً على أحد الأطماع التركية في ليبيا، وهو ما تجلّى مع توقيع مذكرتي تفاهم أمنية وبحرية أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق غير الدستورية في طرابلس، حيث تم الإعلان عنهما في وقت يتصاعد فيه التعاون بين الطرفين بشكل كبير، دون الحاجة لتوقيع اتفاقية أمنية.
وتعكس خطوة أردوغان مساومة أنقرة لحكومة الوفاق بين استمرار دعمها العسكري لمليشيات الوفاق في مقابل التوقيع على مذكرة التعاون البحري، وهو ما تحقق في نهاية المطاف، حيث تواجه تركيا فشلاً ذريعاً جراء سياساتها في شرق المتوسط، خاصةً في ظل نجاح مصر بالتعاون مع اليونان وقبرص في تحقيق تعاون كبير في تلك المنطقة الاستراتيجية، في مواجهة سياسة أحادية تركية غير مُجدية، ولذا فإن أنقرة تسعى إلى بناء تحالف مواجه عبر ضم ليبيا مع شمال قبرص التركية كحلفاء في شرق المتوسط، إلا أن ذلك التحالف يمكن اعتباره هشّا، خاصةً في ظل الرفض الأوروبي والأمريكي الشديد للتحركات التركية غير المشروعة في شرق المتوسط.
محفزات الإسراع في دخول العاصمة
لم يكن مفاجئاً إعلان المشير حفتر بدء الدخول إلى قلب العاصمة في إطار العديد من التطورات المهمة، وذلك على النحو التالي:
1- قطع الطريق على الانخراط العسكري التركي في طرابلس: حيث أعلن أردوغان، في 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن تركيا مستعدة لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، إذا ما تلقت طلباً من حكومة الوفاق، وعدم انتظاره الحصول على إذن من أي طرف دولي في حال تلقي طلب من "الوفاق"، وذلك بموجب الاتفاقية العسكرية التي وقعتها بلاده معها في مجال التسليح والتدريب، وهو مسعى تركي قد يجد ترحيبا كبيرا من جانب حكومة الوفاق التي تجد نفسها محاصرة داخل العاصمة طرابلس في مواجهة الجيش الوطني الليبي الذي يملك الغلبة الجوية إلى جانب السيطرة الميدانية.
وبالتالي فإن توجُّه أنقرة نحو عسكرة الصراع وخلق موطئ قدم عسكري لها في طرابلس أمر جعل الجيش الوطني يُعجّل بدخول العاصمة من أجل قطع الطريق على تركيا والوفاق من تدشين قاعدة عسكرية تركية تعد تهديدا وجوديا للجيش الوطني وتهديدا مباشرا لدول الجوار الليبي أيضا.
2- استغلال المناخ الدولي الناقم على "الوفاق" و"أنقرة": إن المناخ الدولي عقب توقيع اتفاقية أمنية وأخرى بحرية بين الوفاق وأنقرة بات أكثر تقبلاً للجيش الوطني الليبي، خاصةً في ظل الانتقادات الشديدة لحكومة الوفاق ولتركيا بشأن الاتفاقية البحرية، حتى إن الاتحاد الأوروبي قد اعتبر في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري أن الاتفاقية البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق تعد انتهاكاً للقانون الدولي، معرباً في الوقت ذاته عن تضامنه الكامل مع قبرص واليونان اللتين رفضتا الاتفاقية.
3- استثمار هشاشة جبهة "الوفاق" الداخلية وتصاعد خلافاتها: حيث سعى الجيش الوطني لاستثمار الخلافات المتصاعدة داخل جبهة الوفاق في الأسابيع الأخيرة، بين السراج من جانب والمليشيات من جانب آخر، خاصةً بعدما قامت قوة تابعة لما يسمى جهاز مكافحة الإرهاب بمصراتة التابعة لحكومة الوفاق بمحاصرة مبنى وزارة المالية بمنطقة الظهرة بالعاصمة طرابلس في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وذلك باستخدام أسلحة ثقيلة، قبل أن تقوم المجموعة نفسها بمحاصرة مكتب رئيس حكومة الوفاق فايز السراج بمقر مجلس الوزراء في طرابلس، علاوةً على اندلاع اشتباكات بين مليشيات مسلحة تابعة لوزارة الدفاع بحكومة الوفاق، ومجموعة مسلحة تابعة لوزارة الداخلية، وهو ما يعكس وجود تحالف هشّ بين الوفاق والمليشيات التابعة لها، وهو ما أضعف جبهة الوفاق بشكل كبير وشكّل حافزا مهما من ضمن محفزات تسريع الجيش بدخول العاصمة في هذا التوقيت.
التحوُّل في طبيعة الصراع
نجح الجيش الوطني الليبي على مدار عام 2019 في تكريس نفوذه وتعزيز شرعيته عبر تحقيق نجاحات على محاور العاصمة طرابلس بعد النجاح في تحقيق السيطرة الميدانية على أكثر من 90% من الأراضي الليبية، إلى جانب نجاح الجيش في تحقيق الغلبة الجوية حتى فوق العاصمة طرابلس، وهو ما أعلنت عنه القيادة العامة للجيش الوطني، حيث أعلن اللواء أحمد المسماري، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فرض حظر جوي فوق منطقة العمليات العسكرية بطرابلس وحولها، بما يعكس تصاعد القدرات العسكرية للجيش الوطني، ومن جانب آخر، وعلى المستوى السياسي، فقد نجح الجيش الوطني في تسويق نفسه باعتباره الطرف الأقوى في الداخل الليبي، وهو ما يعزز من مقبولية الجيش أمام المجتمع الدولي.
وبالتالي فإننا إزاء تحوُّل في طبيعة الصراع، من صراع شبه متوازن إلى صراع ذي طبيعة أحادية، يستحوذ فيه الجيش الوطني على قبول أكبر على المستويين الإقليمي والدولي إلى جانب سيطرته على أغلب عناصر القوة الفاعلة في الداخل الليبي انطلاقاً من تمركزه في أغلب الأراضي الليبية وتحقيقه الغلبة الجوية وتفوقه التسليحي والبشري، علاوةً على حصار الخصم في زاوية ضيقة في قلب العاصمة، إلى جانب مجموعة من المليشيات المسلحة وبعض الإرهابيين المطلوبين دولياً، في وقت تشهد فيه كفة الخصم (حكومة الوفاق) العديد من الخلافات والتهديد بالانشقاق.
وهي كلها مؤشرات تعكس إمكانية سقوط العاصمة قبل نهاية العام الجاري، خاصةً مع ترجيح استسلام العديد من الأفراد التابعين لحكومة الوفاق وإعلان انشقاقهم عنها، مع تعزيز الجيش من تقدمه باتجاه العاصمة، وتأكيد حفتر في كلمته التي أعلن فيها بدء دخول قواته إلى العاصمة، ضرورة الحفاظ على المدنيين باحترام حرمات البيوت والممتلكات ومراعاة القانون الدولي الإنساني، ومنح الأمان للمسلحين في طرابلس مقابل إلقاء السلاح.
وفي المجمل، فإن حسم معركة طوفان الكرامة ودخول الجيش الوطني إلى قلب العاصمة طرابلس هو مسألة وقت، لكن ذلك يتوقف بشكل أساسي على مساندة المجتمع الدولي لجهود الجيش في القضاء على المليشيات المسلحة الموجودة في طرابلس، وكذلك نجاح الجيش في منع تركيا من إمداد مليشيات الوفاق بالأسلحة أو المقاتلين من أجل منع سقوط العاصمة.
aXA6IDE4LjE5MS4xNTQuMTMyIA== جزيرة ام اند امز