خطت ليبيا خطوة مهمة على طريق استعادة الاستقرار وتحقيق السلام الداخلي .
بعد موافقة البرلمان الأسبوع الماضي بأغلبية كبيرة على منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية الجديدة التي اقترحها رئيس الوزراء المكلف عبد الحميد الدبيبة، والتي تشكلت بعد توافقات سياسية توصلت إليها الأطراف المشاركة في الحوارات التي عقدت برعاية الأمم المتحدة لإنهاء عقد من الفوضى والعنف، مسدلة بذلك الستار على نحو 5 سنوات من عمر حكومة الوفاق المنتهية ولايتها، فاقمت خلالها أزمات ليبيا على جميع المستويات.
أهمية الخطوة الليبية الجديدة لا ترجع فقط إلى أنها تضع حدا - أو هكذا يؤمل - لحالة الصراع والفوضى والانقسامات التي تشهدها ليبيا منذ عشر سنوات، والتي أضرت بالليبيين بكل فئاتهم، وجعلت الأراضي الليبية مرتعاً خصباً لجماعات التطرف والإرهاب والمرتزقة الأجانب، وساحة مهمة لمحاولات فرض النفوذ والهيمنة من قبل بعض القوى الإقليمية، وبددت ثروات الشعب الليبي النفطية والاقتصادية التي ظلت على الدوام عرضة للنهب والاستنزاف من قبل المليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة، وإنما أيضاً لعوامل أخرى عدة، من بينها حالة التأييد الدولي الواسع التي حظيت بها هذه الحكومة من قبل المجتمع الدولي عامة، والدول الفاعلة في المشهد الليبي خاصة، والتي تعزز التفاؤل بقدرتها على تحقيق الآمال المعقودة عليها، ليبياً وعربياً ودولياً، في إخراج هذا البلد العربي من حالة الفوضى والانفلات التي عاناها طيلة العقد الماضي، وأداء المهام الرئيسية المكلفة بها ولا سيما تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة في ديسمبر 2021، ثم نقل السلطة إلى القادة المُنتخبين ديمقراطياً في ليبيا، والتنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر 2020، وبدء عملية المصالحة الوطنية وتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب الليبي.
ومن هذه العوامل المشجعة أيضاً المكاسب التي حققتها المرأة الليبية في هذه الحكومة، والتي تمثلت بتعيين أربع وزيرات، وهي الحصة الأعلى التي تحققها المرأة الليبية في تاريخ الحكومات في ليبيا. ولا يقتصر الأمر على العدد، فبعض هذه الوزارات على درجة عالية من الأهمية؛ إذ عينت نجلاء المنقوش على رأس الدبلوماسية الليبية كأول امرأة تتقلد منصب وزير الخارجية منذ استقلال البلاد بداية خمسينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى وزارات الشؤون الاجتماعية والثقافة والعدل ومنصب وزير الدولة لشؤون المرأة.
ورغم مؤشرات التفاؤل هذه، فإن الحذر يظل قائماً، ولا سيما في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجه هذه الحكومة في مساعيها لتحقيق المهام المعقودة عليها، سواء فيما يتعلق بإعادة الأمن والاستقرار لربوع البلاد وإنهاء حالة الانقسام السياسي، أو إعادة تشغيل عجلة الاقتصاد وإعادة بناء ما دمرته الحرب، والتحضير لإجراء الانتخابات النيابية المقبلة، وتفكيك شبكات المليشيات المسلحة التي تعمل داخل الأراضي الليبية.
وهذا التحدي الأخير تحديداً المرتبط بتفكيك المليشيات المسلحة وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد يشكل في تقديري العامل الأكثر أهمية لضمان نجاح الانتقال بليبيا إلى مرحلة الدولة المستقرة التي تفرض سيادتها على جميع أراضيها، لأن هذه المليشيات هي التي عززت حالة الفوضى في المشهد الليبي، وهو تحدٍّ ليس بالسهل، في ظل استمرار وجود ما يقرب من سبعة آلاف مرتزق سوري موالٍ لأنقرة على الأراضي الليبية، بحسب تقديرات المرصد السوري، وفي ظل المشكلات التي لا تزال تثيرها هذه المليشيات، ومن ذلك الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس بين كتيبتين من المليشيات الموالية لحكومة الوفاق المنتهية ولايتها قبل أيام وبعد يوم واحد فقط من إعلان رئيس المجلس الرئاسي الجديد، محمد المنفي، مباشرة مهامه رسمياً للمرة الأولى فيها.
ورغم خطورة هذا التحدي، فإن حكومة الدبيبة تحظى بدعم دولي قوي لحسم هذا الملف، فعقب منح الثقة لهذه الحكومة، دعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى "الخروج الفوري" لجميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، كما دعا مجلس الأمن الدولي في إعلان تبناه بالإجماع إلى "انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا دون مزيد من التأخير"، وكذلك الحال بالنسبة للدول الأوروبية والعربية التي أكدت على أهمية تحقيق هذه الخطوة، كأساس لاستعادة ليبيا أمنها وسيادتها واستقرارها، وتجاوز العشرية السوداء التي شهدتها بعد كابوس "الربيع العربي".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة