الغربيون ينتظرون اللحظة الفارقة، لينقضوا بحلولهم التي تطيل أمد الأزمات وتصنع حالة من «اللاأمن» و«اللاسلم».
يتساءل البعض: "هل تريد الدول الغربية، خاصة الدول العظمى، إنهاء الحروب والصراعات في العالم ومن بينها منطقتنا العربية"؟ "هل في محاصرة الصراعات المسلحة ومن ثم القضاء عليها مصلحة مباشرة لهذه الدول"؟ "هل تتفق الأخلاقيات الغربية في تقديس وجود الإنسان وتعظيم حاجاته الأساسية ومن بينها الأمن، مع الأجندة السياسية الخفية لحكومات الدول الغربية"؟ و"هل تتفق أيضاً التصريحات الدبلوماسية العلنية للمسؤولين الغربيين الداعية إلى التهدئة والمطالبة دائماً بنزع فتيل الحروب، مع التحركات الحقيقية للسياسيين ورجال الاستخبارات الغربيين على أرض الواقع"؟
جاء هذا الاختيار ليدشن مرحلة جديدة من مستقبل أوروبا الذي يظن عرابوه وراسموه أنه لن يشرق ويزدهر إلا بانتكاسة عربية تعود به إلى الوقائع نفسها التي كان يعيشها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
في اليمن يعرف الغرب تمام المعرفة أن بسط الأمن وتعزيز الاستقرار لا يتأتى إلا بمواجهة مليشيا الحوثي عسكرياً، لكن رغم ذلك تبادر العواصم الغربية إلى وضع «العصا» في عجلة أي تقدم على الأرض لجيش الشرعية أو قوات التحالف.
تتدخل كلما حوصر الحوثي وضاقت عليه دائرة الحلول. مرة بدعوى إطلاق جولة مفاوضات جديدة، ومرة تحت ذريعة الوضع الإنساني الصعب.
يقول المجموع الغربي إنه ضد عمليات إيران الإرهابية في المنطقة، ويظل يطلب من المجموع العربي الإسهام مادياً في تنفيذ مشروع مواجهة إيران، لكن عندما يأتي الحديث عن اليمن، بحيث يتمثل الإرهاب الإيراني في المنطقة في أبلغ صوره، تطفو على السطح المفاوضات والوضع الإنساني والقوة المفرطة والمدنيين العزل، إلى آخر ما هنالك من الكلمات «المعلبة» ذات الصلاحية غير المحدودة. وتختفي بالطبع تبعاً لذلك في القواميس الغربية الحاجة إلى محاصرة إيران حيثما ذهبت وأينما كانت!
لم يفعلوا ذلك؟ لأن بقاء الحرب مشتعلة في اليمن يحقق للاستراتيجية الغربية بعيدة المدى أكثر من فائدة.
وفي سوريا، كان المجموع الغربي يعرف أن المعارضة السورية كانت بحاجة في بدايات تشكيلها إلى دعم صغير جداً لإسقاط نظام بشار الأسد، والذهاب بالبلاد إلى مرحلة انتقالية تنهي حالة القتل اليومي التي كانت قائمة، لكنه لم يتدخل وظل يشتري الوقت بجنيف ١ و ٢ و٣.. إلخ، إلى أن تدخل الروس على طريقتهم الخاصة في سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ وبدأوا في العمل على إنهاء الفوضى وتثبيت الأمن، من خلال فرض خيار القاتل وتبني وجهة نظر الديكتاتور!
لمَ فعل الغرب ذلك؟ لأن بقاء الحرب مشتعلة في سوريا يحقق للاستراتيجية الغربية بعيدة المدى أكثر من فائدة.
وفي ليبيا يعرف الغرب أن هناك حاجة ماسة لرجل قوي يحظى بقبول دولي، يستطيع العبور بالبلاد مرحلة الفراغ التي سقطت فيها بعد سقوط الديكتاتور معمر القذافي. يعرف الغربيون أن المشير خليفة حفتر هو الوحيد القادر في المرحلة الحالية على بسط الأمن وفرض السلم على كامل التراب الليبي، لكنهم رغم تمام هذه المعرفة يعرقلون انتصاره ويحاولون أن يقفوا أمام توحد ليبيا تحت علم الجيش الوطني، بحجة ضرورة الخضوع لصندوق الاقتراع! يدفعون الليبيين للحرب الأهلية باستخدام خدعة الانتخابات! يعرف الغربيون أي حل يمتلكه حفتر! لكنهم لا يعرفون أننا نعرف أن استخدامهم نموذج «ليبيا الغربية» ما هو إلا غطاء لسعيهم إبقاء الوضع هناك مضطرب على الدوام، وأن «الديمقراطية الإكسبرس» التي يتحدثون عنها لا يمكن زرعها بشكل مفاجئ في بلد لم يعرفها منذ آلاف السنين. ولو كان الغرب صادقاً في مسألة الديمقراطية لدعم حفتر على أمل أن يستزرعها الرجل في بلاده خلال السنوات المقبلة تحت ظل شجرة الأمن والسلم.
لمَ يفعل الغرب ذلك؟ لأن بقاء الحرب مشتعلة في ليبيا يحقق للاستراتيجية الغربية بعيدة المدى أكثر من فائدة.
واليوم ها هم الغربيون يمارسون الدور نفسه في الجزائر والسودان. ينتظرون اللحظة الفارقة، لينقضوا بحلولهم التي تسهم في عزل البلدين عن محيطهما، وتطيل أمد الأزمة وتصنع حالة من «اللاأمن» و«اللاسلم».
يفعلون ذلك من أجل تحقيق مصالحهم بعيدة المدى التي تقتضي إشغال هذا الجزء من العالم في مشاكله الداخلية وعزله عن مصادر قوته، وإبقائه بعيداً عن سماءات الندية والمنافسة.
ويفعلون ذلك من أجل حماية حدودهم وإبقائها آمنة، فافتعال الحروب على بعد آلاف الكيلومترات وإدارتها بطرق دبلوماسية مرسومة بعناية، يجعل من نشوب الصراعات بالقرب من حدودهم أو في بلادهم أمر بالغ الصعوبة.
ويفعلون ذلك، لأن هناك أفواهاً جائعة في بلدانهم ولا سبيل لإشباعها إلا بتدوير مصانع السلاح.
ويفعلون ذلك لأنهم يريدون دائماً الإبقاء على حالة اختبار «قوة ونوايا» الخصمين الرئيسيين «روسيا والصين»، ولا يوجد مختبر أفضل لفعل ذلك سوى المختبر العربي.
لم يتم اختيار المختصة في الإسلام السياسي فيديريكا موغريني «عبثاً» لتكون المنسقة للشؤون السياسية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، وإنما جاء هذا الاختيار ليدشن مرحلة جديدة من مستقبل أوروبا الذي يظن عرابوه وراسموه أنه لن يشرق ويزدهر إلا بانتكاسة عربية تعود به إلى الوقائع نفسها التي كان يعيشها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
وبخلاف موغريني، فإن هناك العشرات من الغربيين المختصين في العقلية الإسلامية والعربية الذين يعملون في مراكز صنع القرار الرئيسة في أمريكا وأوروبا، من أجل صناعة الحلم الغربي الجديد على أطلال المشروع العربي.
يعرف الغرب كل شيء عن العرب، لكن فات عليهم أن روسيا تتنزه الآن في فنزويلا، وأنها تفتح ذراعيها لكل حليف جديد!
نقلاً عن "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة