«بتفرج على زمايلي وبعيط».. اعترافات لطفي لبيب المريرة
مشهد داخلي لرجل خارج الكادر.. أحب الفن ومات على بابه

غادر الفنان المصري لطفي لبيب الحياة عن عمر ناهز 77 عامًا، بعد سنوات من المرض الذي أعاق حركته دون أن يخفت حضوره.
في صباح الثلاثاء 30 يوليو / تموز 2025، أسدل الستار على حياة الفنان المصري لطفي لبيب، عن عمر ناهز 77 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض أبعده عن الكاميرا، وقيد حركته، لكنه لم يُطفئ صوته الداخلي. لم يكن مجرد ممثل غاب، بل رحل أحد أعمدة الأداء الصادق، الذي ظل لأربعة عقود يُقدّم أدوارًا محفورة في الذاكرة دون أن يطلب بطولة مطلقة.
نعى الفنانون والجمهور رحيله بحزن شفيف، فهو لم يكن نجماً من النوع الذي تلهث وراءه الصحف، بل وجهًا يحمل طمأنينة الأب وصدق الحكيم، ومرارة الصامت.
"أنا مش قادر أمثل تاني"
لم تكن جملة اعتزال صاخبة حين قالها: "أنا مش قادر أمثل، دماغي شغالة بس جسمي مش مساعدني". جاءت كاعتراف أخير من فنان قضى سنواته الأخيرة في صراع مع جلطة دماغية أثرت على حركته، لكنه احتفظ بكامل وعيه ومحبة الفن.
لطفي لبيب، خريج كلية الآداب قسم الفلسفة، وخريج معهد الفنون المسرحية عام 1979، تأخر ظهوره بسبب خدمته في حرب أكتوبر 1973، حيث قاتل كجندي مشاة. لم يكن الفن عنده مجرد مهنة، بل امتدادًا لفهمه العميق للإنسان والواقع، لذلك حين اعتذر للجسد في النهاية، لم يعتذر للكاميرا بل للحياة التي أحبها ممثلاً ومُشاهدًا.
"بتفرج على زمايلي وبعيط"
حين تحدّث عن مشاعره وهو يشاهد أصدقاءه في المسلسلات، قال بوضوح: "بحس إني خلاص برا اللعبة.. وقاعد لوحدي". لم تكن مجرد لحظة حزن عابرة، بل اعتراف صادق من فنان عاش فترة ذهبية، وشارك في أعمال محفورة مثل "ليالي الحلمية"، و"أبو العلا البشري"، و"رأفت الهجان"، و"السفارة في العمارة"، ثم وجد نفسه فجأة يراقب من بعيد.
عاش لطفي لبيب زمنًا كانت فيه العلاقة بين الفنان والدور علاقة إيمان، لا علاقة تسويق، ولذلك بدا الحنين في صوته شبيهًا بشخص يرى بيته القديم من خلف نافذة قطار لا يستطيع التوقف.
"الجلطة خدت نص جسمي.. وسايبها على الله"
منذ إصابته بجلطة دماغية عام 2011، دخل لطفي لبيب في مرحلة صحية صعبة أثرت على نصف جسده، ومع ذلك لم يستسلم للغياب الكامل. واصل المشاركة في بعض الأعمال رغم الإعياء، مثل فيلم "عسل أسود"، ومسلسل "الخواجة عبد القادر"، بعزمٍ لا يشكو ولا يُزايد.
حين قال: "بقيت نص بني آدم، ومش عايز أشتكي، سايبها على الله"، كان يقولها كمن يُسلم قلبه للهدوء لا لليأس. لم يكن يطلب شفقة، بل يروي التفاصيل كما هي: بلا بطولة كاذبة، ولا رغبة في لفت النظر، بل رجل يُرتّب روحه قبل المغادرة.
"الفن بقى سبوبة.. والناس نسيتني لما وقعت"
في لحظة مكاشفة نادرة، تحدّث لطفي لبيب عن حال الفن المعاصر بمرارة: "زمان كان فيه رسالة وإنسانية، دلوقتي كله بيجري على التريند". لم يكن يهاجم جيلًا جديدًا، بل يدافع عن معاييره القديمة التي ظل وفيًا لها، في زمن تغيّر فيه كل شيء.
بطل أكثر من 300 عمل، لم يكن يطلب صدارة، بل صدقًا. قال أيضًا: "ناس كانت بتتصور معايا وسابتني لما وقعت"، وهي جملة تختصر هشاشة المودة في الوسط الفني حين يذبل النجم. كان يحكي تجربته من الداخل، لا كمظلوم، بل كمراقب رأى المشهد يبتعد، وبقي هو في مقعده، يتأمل ويحمد.
"أنا كتبت وصيتي.. ومستعد في أي لحظة"
حين صرّح لطفي لبيب بأنه كتب وصيته، لم تكن الجملة نهاية ميلودرامية، بل كانت تلخيصًا وديعًا لحياةٍ نضجت بما فيه الكفاية. قال: "كل حاجة خلاص، أنا مستعد.. مش زعلان من الدنيا، بس تعبت". لم يكن ينظر للموت كفقد، بل كباب يُفتح على راحة.
من يعرف لطفي لبيب يعرف أنه ظلَّ دومًا متصالحًا مع مصيره، لا يتكلم عنه إلا ببساطة من تجاوز مراحل الإنكار والخوف، وعاش بما يكفي ليشعر بأن الرحيل ليس هزيمة، بل محطة يصل إليها من أتمّ رحلته في هدوء. وصيته لم تكن ورقة مكتوبة فقط، بل كانت أعماله التي خلّدته.
الوداع الأخير.. حضور لا يحتاج جسدًا
رحل لطفي لبيب صباح 30 يوليو/ تموز، لكنّه لم يُغادر تمامًا. بقيت كلماته، مشاهد أدواره، ضحكاته الجانبية، ونبرته الساخرة التي تسكن المشهد دون أن تطغى عليه. لم يكن نجمًا لامعًا بالمفهوم التسويقي، لكنه كان نجمًا داخل المشهد، لا خارجه. في زمن تسوده السرعة والسطحية، كان لطفي لبيب نقطة توازن: لا يتكلم كثيرًا، لكنه حين يتكلم، يصمت الجميع.
ترك خلفه درسًا في الفن الهادئ، وفي البساطة القوية، وفي القدرة على أن تكون حقيقيًا دون أن تصرخ. هو الممثل الذي لو حضر دقيقة واحدة في فيلم، لترك فيها أثر ساعة. هو الرجل الذي غادر الجسد، لكنه بقي في الذاكرة، كما يبقى الضوء الخفيف بعد انطفاء المصباح.