من خلال اللوفر تضيف أبوظبي منصة جديدة إلى منصاتها الثقافية.
ليس صحيحاً أن دولة الإمارات العربية المتحدة وحدها ستكون الجهة المستفيدة من إقامة النسخة الأولى في التاريخ من متحف اللوفر الذي هو فرنسي الإقامة، وفي الوقت نفسه عالمي الانتماء.
أبوظبي لن تكون مجرد مدينة مستضيفة لمتحف اللوفر، بل سيُتاح للوفر أبوظبي أن يمد جذوره عبر ثلاثين سنة هي مدة العقد المبرم بين أبوظبي والدولة الفرنسية، ليكون جزءاً من البيئة الثقافية، ويكون واحدة من منارات ثقافية عصرية.
اللوفر نفسه، باعتباره واحدة من المحطات الإنسانية، ستكون درجة استفادته عالية هو الآخر. فمن خلال أبوظبي تنفتح أمامه بوابة في اتجاه آسيا، القارة المليارية التي تقف آثارها في مقدمة اللقى أو الكنوز النفيسة التي يضمها بين جدران قاعاته. ولكن أبوظبي لم تعد منذ سنوات بوابة لآسيا فقط، فبحكم المكانة السياحية المهمة التي صارت تحتلها دولة الإمارات العربية المتحدة، فإن عاصمتها أبوظبي صارت تحظى بإقبال زائرين من كل القارات. بهذا المعنى، فإن اللوفر يكتسب سعة مضافة في التأثير من خلال نافذته التي فتحها في أبوظبي.
متحف اللوفر يخطو خطوة مهمة في تاريخه التنويري من خلال نسخته الإماراتية. أما ما يتعلق بأبوظبي، فإنها ستضيف إلى معالم إبداعها المعماري والثقافي معلماً جوهرياً جديداً، سينتقل بها إلى مصاف المدن المهمة على الخريطة الثقافية العالمية. وهو أمر يستحق الإشادة لما ينطوي عليه من حكمة في الانتباه إلى الدور الذي تلعبه الثقافة في صنع مفردات الحياة اليومية في عصرنا.
أبوظبي التي هي مدينة عصرية، بكل ما تحمله تلك الصفة من معان، تُكرس اليوم دورها الضروري كعنصر ربط واشتباك وتقاطع على مستوى زماني ومكاني فريد من نوعه. فهناك جغرافيا متخيلة تفارق من خلالها أبوظبي حدود منطقتها لتكون مدينة عالمية، وهناك في المقابل تاريخ يُعاد النظر إليه بطريقة مختلفة بسبب ما تتوفر عليه أبوظبي من احتمالات متعددة في النظر والتفكير، تبعاً لما تضمه وتستقبله من تنوع بشري. وهكذا فإن العلاقة بين اللوفر وأبوظبي تقوم على تبادل إيجابي للمنفعة الثقافية. ما تقدمه أبوظبي للوفر هو بحجم ما يقدمه اللوفر إليها.
وطن جديد للآثار
تعطينا المتاحف فكرة عن الماضي، وتلك فكرة تقليدية يمكن نقضها بيسر الآن. في عصرنا الذي تبدلت فيه أدوات القياس وأساليب المعرفة. ففي مدينة عصرية مثل أبوظبي يمكن النظر إلى إقامة متحف بطريقة مختلفة. فأبوظبي مدينة منفتحة على عالم هو غير ذلك العالم الذي تنفتح عليه باريس، التي يُمكن أن توصف بالمدينة التقليدية مقارنة بأبوظبي. لقد تغير العالم وتغيرت معه معايير الحكم النقدي. وهو ما يدركه الفرنسيون جيداً. فالمتحف باعتباره فضاءً تاريخياً كان في حاجة إلى أن يتنفس هواء جديداً يبعث فيه الحياة بما يتناسب مع قيمته. تأخذ المبادرة الإماراتية حجمها الحقيقي حين يتم الحديث عن الحياة المباشرة باعتبارها تتمة للتاريخ وليست جزءاً منه. لقد خففت أبوظبي عن اللوفر عبء انفصاله عن الحياة. ولكن كيف تردم أبوظبي الهوة بين الماضي والحياة المباشرة، وهو ما لم يكن إنجازه ممكناً في باريس؟ بالنسبة للوفر ستبدو الصفقة رابحة. إنه يشتري الحاضر مقابل الماضي.
في إمكاننا أن نقول إن اللوفر يجدد شبابه من خلال نسخته في أبوظبي. بهذا المعنى فإن أبوظبي لا تستقبل مقتنيات اللوفر باعتبارها «منفى» لتلك المقتنيات، ولكن بصفتها وطناً جديداً، يضفي على تلك المقتنيات الكثير من النضارة. هناك حياة حقيقة ما كان من الممكن العثور عليها من غير الانتقال إلى مدينة تنتمي بطريقة جوهرية إلى عصر ما بعد الحداثة. بالنسبة للفرنسيين المتحمسين لمشروع لوفر أبوظبي، فإن أبوظبي هي «اللقية» أو الكنز الذي وضعه العصر الحديث في طريقهم. كان رهانهم ناجحاً لا بسبب ما يدره من أموال، بل بسبب ما ينطوي عليه من عمليات تحديث كان المتحف في حاجة إليها.
الماضي والمستقبل في حاضر تفاعلي
حين أقيمت المتاحف كانت عنواناً للمركزية الأوروبية. لقد بذل المستعمرون كل ما في وسعهم لتأكيد سلطتهم المطلقة، لا من خلال سيطرتهم على حاضر الشعوب فقط، بل على ماضيها أيضاً، ما يعني أن التاريخ كله صار تحت سيطرتهم. المتحف هو عنوان لتلك السلطة التي لم يكن أحد يعتقد أنها ستزول مثل تلك الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. غير أن الشمس غربت وانتهت بريطانيا بلد مهدد بالتفكك. وأوروبا نفسها- بالرغم مما يظهر عليها من مظاهر القوة بسبب وحدتها- تشعر بالحاجة إلى أن تكون موجودة بطريقة ناعمة خارج حدودها. فكرة نقل المتحف من مكانه، والتي تأتي على النقيض من فكرة تجسيد المركزية الغربية، أحدثت انقلاباً كبيراً في مفهوم التعامل مع المتحف باعتباره فضاء تفاعلياً بين الشعوب، حيث يمكن أن تنتقل الآثار كما تنتقل الأعمال الفنية. وهو ما يتحقق في لوفر أبوظبي الذي تعد إقامته توسيعاً لفكرة التفاعل التقليدية من جهة انفتاحها على أفكار لم يحن بعد زمنها. وهكذا يتحرر المتحف من ماضي مقتنياته ليرتبط بمستقبلها، وصار الالتحاق بمدن المستقبل- وأبوظبي تقف في مقدمتها- هاجساً عالمياً. في سياق ذلك الهاجس، يحتل لوفر أبوظبي مكانة ذات دلالة ثقافية وسياسية. وهو ما يمكن اعتباره تعبيراً عن مبدأ حماية الإرث الإنساني من خلال وضعه في إطار المسؤولية العالمية المشتركة.
تطوير التعليم وتحسين الذائقة الجمالية
الانتقال بالمتحف من بيئته المغلقة إلى بيئة مفتوحة يقوم أساسها على مبدأ التفاعل، الذي هو واحد من أهم شروط قيام المدن «ما بعد الحداثية»، يستطيع أن يُحدث نقلة في طرز وأساليب التعليم في المنطقة، لا على مستوى التعرف على التاريخ مباشرة وحسب، بل وأيضاً على مستوى التعمق في فهم أسباب ودوافع التذوق الجمالي بما يسهم في المزاوجة بين المعرفة العقلية والذائقة الحسية، وهو ما لا يمكن أن يقع إلا في بيئة سليمة من جهة حيادها الإيجابي، وهو ما يصح قوله على مدينة عالمية مثل أبوظبي.
اللافت في هذا المجال أن أبوظبي لن تكون مجرد مدينة مستضيفة لمتحف اللوفر، بل سيُتاح للوفر أبوظبي أن يمد جذوره عبر ثلاثين سنة هي مدة العقد المبرم بين أبوظبي والدولة الفرنسية، ليكون جزءاً من البيئة الثقافية، ويكون واحدة من منارات ثقافية عصرية، تستمد منها دولة الإمارات العربية المتحدة، القدرة على تنشئة أجيال من الشباب المتنورين والقادرين على التعامل مع تحولات عصرهم بثبات وفهم مَن أدرك أسرار المعادلة التي لا تضع المستقبل في مواجهة مع الماضي بما ينسف العلاقة بينهما. ولأن أبوظبي تشكل محطة لقاء عالمية، فإن النتائج الإيجابية المتوقعة لإقامة متحف لوفر أبوظبي لن تكون حكراً على أبناء أبوظبي وحدهم، بل وأيضاً لملايين الشباب القادمين من مختلف أنحاء العالم، الذين سترعى أبوظبي نظرتهم المتطلعة الأولى لفهم العالم. قد تُفهم الخطوة الإماراتية في إقامة لوفر أبوظبي على أساس ما تمثله من تطلع إلى العالمية، وهو استحقاق تاريخي حدث في وقته المناسب، غير أن الأهم في تلك الخطوة ما يمكن أن يصدر عنها من نتائج إيجابية على مستوى تطوير التعليم وتحسين الذائقة الجمالية لدى الملايين من البشر.
طلب الفن في الأماكن العامة
من خلال اللوفر تضيف أبوظبي منصة جديدة إلى منصاتها الثقافية. متحف اللوفر هو معلم معماري وحضاري سيكون بمثابة تأكيد لعالميتها، وهي صفة لن تكون ناقصة، ذلك أن قيوداً لن تفرض على العروض الفنية، وهو عنصر حياة ذكي صنعته أبوظبي بنفسها، الأمر الذي أفشل طرحه شرطاً من قبل المعترضين الفرنسيين. لقد شهدت الإمارات العربية المتحدة عبر السنوات الماضية، ومن خلال «بينالي الشارقة» و«آرت أبوظبي» و«آرت دبي»، عروضاً فنية عالمية، كان الهدف منها زيادة الطلب الشعبي على الفن في الأماكن العامة. ولم تخضع تلك العروض لصرامة نظر كانت متوقعة بسبب التقاليد، بل بالعكس أظهر التفاعل الشعبي مع تلك العروض نسبية النظرة التقليدية، وهو ما يشجع على التفاؤل بما سيشهده لوفر أبوظبي من إقبال شعبي يؤكد ضرورته وحكمة الإرادة التي وقفت وراء إقامته.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة