في أجواء مشحونة لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، يجتمع قادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مدريد لثلاثة أيام، وسط مخاوف من نتائج تحشد لها أمريكا قد تزيد من غضب موسكو.
القمة هي الثانية في العاصمة الإسبانية منذ 25 عاما، فقد كانت القمة الأولى عام 1997، وجاءت نتائجها عكس رغبة روسيا، "الضعيفة" آنذاك، بإبعاد الغرب عن منطقة نفوذها على البحر الأسود، فكانت الشرارة التي اشتعلت حاليا في وجه القارة العجوز "المنهكة" بعدما عمل الوافد الجديد للكرملين، فلاديمير بوتين، خلال عقدين، على تكوين إمبراطورية اقتصادية وعسكرية وترميم هيبة روسيا عالميا.
فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وفي ظل الهيمنة للقطب الأحادي، فرضت الولايات المتحدة استراتيجيتها وعملت على محاصرة روسيا عبر اقتراح توسعة الناتو باتجاه الشرق، وطرحته رسميا في مؤتمر بروكسل 1994 كمبادرة لتنمية الثقة مع دول شرق أوروبا، وهو ما بدد آمال الشراكة والاندماج الأمني بين روسيا وأوروبا آنذاك، حيث أعلن الرئيس الروسي، بوريس يلتسين، رفضه محاولات التوسع شرقًا.
ومع ضعف روسيا حينها، جاءت توصيات قمة 1997 متجاهلة تحذيرات "يلتسين" التي كانت بلا أنياب بتوسعة عضوية الناتو، وتمت بالفعل دعوة بلدان الشرق الأوروبي، التي كانت ضمن حلف وارسو، وهي بولندا والمجر والتشيك، وبالفعل تم قبول عضويتها عام 1999، ما زاد غضب موسكو من زيادة نفوذ الولايات المتحدة والتمادي في الدخول ضمن دائرة الأمن الروسي، فتغلغلت في أذربيجان وتركمانستان وحوض بحر قزوين، مستغلة حاجة روسيا إلى الدعم الغربي.
وبعد نحو عقدين ونصف العقد، وتحت أصوات المدافع والصواريخ، تأتي قمة مدريد 2022 لتناقش تداعيات ما تجاهلته قمة 1997 من تحذيرات روسية آنذاك، حيث وصفت موسكو قرار التوسعة بأنه "خطأ جسيم ارتكبه الغرب"، وهو أيضا ما حذر منه "بوتين" منذ سنوات إلا أن الغرب أصمَّ أذنيه، غير أن الحال اختلفت عن 25 عاما مضت، حيث باتت روسيا ثاني أكبر قوة عسكرية وضمن العشرة الكبار اقتصاديا.
ومع محاولات حلف الأطلسي إعادة الكرّة من جديد والتوسع شرقا عبر بوابة أوكرانيا، كان "الجيش الأحمر" هذه المرة بالمرصاد، وللأسف دفع الأوكرانيون ثمن الانسياق وراء الغرب والتخلي عن الحياد بحرب لن يجنوا منها غير الخراب والدمار، حيث أعلن "بوتين" في 24 فبراير الماضي بدء عملية عسكرية انعكست آثارها على العالم أجمع.
وبينما اعتبر أمين عام حلف الشمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج، قمة 1997 "إيذانًا بعصر جديد من الأمل والطموح"، رغم أنها تسببت في أكبر أزمة أمنية في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصف قمة 2022 بأنها "تاريخية" لأنها ستؤكد وحدة الحلف في مواجهة روسيا.
اجتماع قادة حلف الأطلسي من جديد في مدريد حاليا بقمة تشهد إعلان مفهوم استراتيجي جديد للحلف "سيرسم خارطة طريقه للعقد المقبل"، وستتغير فيه صيغة روسيا لدى الناتو من "شريك" إلى "تهديد مباشر"، بالتوازي مع حشد غربي واسع من أمريكا وألمانيا وفرنسا ليكون البيان الختامي أكثر "عدوانية" تجاه موسكو وسط لحظات مشحونة شبهها قائد الجيش البريطاني، باتريك ساندرز، بأجواء "ما قبل الحرب العالمية الثانية"، وتأكيده ضرورة الاستعداد لمواجهة روسيا في حرب عالمية ثالثة محتملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة