كشفت الأزمة السياسية، التي يعيشها العراق منذ الانتخابات البرلمانية أكتوبر الماضي، عن تغيرات مهمة في الواقع السياسي العراقي منذ 2005.
ومن بين ملامح كثيرة لتلك التغيرات يبرز اختلاف المزاج العام لدى المواطن العراقي.. حيث حملت نتائج الانتخابات مفاجآت سياسية تحولت فيما بعد إلى قنابل ملغومة.. إذ عكس تصويت الناخب العراقي رغبة قوية في التجديد وتغيير الوجوه التقليدية التي تحتل صدارة المشهد العراقي منذ عقدين.
لكن يجب قبل الأخذ بنتائج الانتخابات البرلمانية كمؤشر إلى التغيير ومداه، إدراك أن هناك شريحة مجتمعية وسياسية قاطعت هذه الانتخابات، وبالتالي لا تزال الخارطة السياسية العراقية مفتوحة على مزيد من التغير وإعادة التشكيل، خاصة إذا لقي مَن قاطعوا الانتخابات مُحفزاتٍ على العودة إلى الساحة السياسية.. وهو احتمال قائم بقوة، خصوصًا في ظل الحراك السياسي المستمر، سواء من جانب الكتل السياسية التقليدية، مثل التيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر، والذي انسحب من مجلس النواب العراقي وترك الساحة السياسية أمام احتمالات مفتوحة، أو من جانب المستقلين والكيانات السياسية الجديدة.
فبعد ثمانية أشهر من ذلك الاستحقاق الانتخابي المهم، بدأت بصمات التحول في اتجاهات الناخبين تظهر بشكل واضح على الخارطة السياسية، وتحديدا ما يتعلق منها بالتنظيمات والكيانات السياسية، بعد تغير الأوزان النسبية للتيارات السياسية والقوى المجتمعية، والذي كان أشبه بالانقلاب في التركيبة السياسية داخل البرلمان الجديد.
باختصار، يمكن القول إن الخارطة السياسية العراقية قد تغيرت، أو بشكل أدق هي قيد التغيير والتحول.. ولم تعد كما كانت قبل سنوات بل وقبل شهور فقط.
ومن أهم ما يجب رصده في الخارطة السياسية العراقية الراهنة ظهور أحزاب وكيانات سياسية جديدة لا تنتمي إلى التصنيفات التقليدية التي تغلب الطائفية عليها بالأساس.
أما الأحزاب الجديدة فهي ليست طائفية، بل يمكن القول دون مبالغة إنها لا تنتمي إلى توجه سياسي أو أيديولوجي محدد.. فهي لم تبدأ مباشرة كأحزاب أو تنظيمات سياسية، وإنما نبَعت في تطور تدريجي من رغبة بعض الناشطين المستقلين في ممارسة دور سياسي لا يتقيد بالقيود الطائفية ولا بالحسابات السياسية التقليدية ولا حتى بالمصالح الاقتصادية.
فعلى وقع التظاهرات الشعبية، التي اكتسبت مع الوقت زخْما سياسيا، تشجع بعض أولئك المستقلين وترشحوا في الانتخابات البرلمانية. وبالفعل حصلوا على عدد مقاعد لا بأس به في ظل طغيان الكيانات السياسية الكبيرة المدعومة داخليا وخارجيا.
أما تنظيميًّا، فتمثل الأحزاب والكيانات السياسية المستحدثة روحا جديدة بدأت تسري في أوصال الشارع السياسي العراقي.. بعد أن أكد العراقيون بوضوح رفضهم لكل الطبقة السياسية التقليدية، وذلك بأشكال متنوعة.. بدأت بالاعتصامات الطويلة والاحتجاجات الشعبية التي وصلت إلى ذروتها في أكتوبر 2019 ولا تزال تطل برأسها من حين إلى آخر.. ووصلت حاليًّا إلى تغير السلوك التصويتي للعراقيين في الاستحقاقات السياسية، قياسا على ما حملته الانتخابات البرلمانية الأخيرة من نتائج مفاجئة.
الدلالة المهمة في ذلك أن التغير الحاصل في مواقف الشارع العراقي بدأ ينعكس بدوره في تغير مُوازٍ لآليات العمل السياسي، أبرز مؤشراته هو تلك التنظيمات والأحزاب الجديدة، بعيدا عن القوى السياسية التقليدية.
والدليل على ذلك أن تلك التنظيمات الجديدة يتبنى معظمها مواقف الحراك السياسي الشعبي، وبعد النتائج الانتخابية المبشرة التي حققتها هذه التنظيمات، يجري حاليًّا تأسيس تكتل شبابي مدني جديد في جنوب العراق، خصوصا في النجف.. ويجري الأمر نفسه على نطاق أوسع في مناطق غرب وشمال العراق.. ما يعني أن معظم مناطق العراق -ربما باستثناء بغداد ومحيطها- صار الناشطون والمدافعون عن المواطنة العراقية يعملون بجد من أجل الانتظام في كيانات سياسية وحزبية.
وفي ذلك مغزى عميق بالنسبة لعلاقة الخارطة السياسية بالواقع المجتمعي، وهو أن مطالب الشارع العراقي ستجد من ينقلها ويبلورها على الساحة السياسية بشكل منظم.
والمتوقع أن تتطور الخارطة السياسية باتجاه مزيد من التعبير التنظيمي عن رأي الشارع، خاصة في ظل حضور المستقلين بشكل واضح في البرلمان واحتمالات بناء جسور بينهم وبين تلك الأحزاب الجديدة.. فضلا بالطبع عن إمكانية انفتاح الأحزاب والكيانات القديمة على الشارع ولو بقدر.. وذلك لمحاولة تعويض خسارة الرصيد الشعبي الذي مُنيت به القوى التقليدية في الانتخابات.
الملمح الأخير، الذي سيكون له دور كبير في تشكيل الخارطة السياسية العراقية في المستقبل القريب، هو ما ستؤول إليه لعبة التحالفات المتغيرة، والتي صارت مفتوحة على الاحتمالات كافة، بعد انسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان.. وبعد الجلسة الاستثنائية العاجلة التي عقدها البرلمان لمنح مقاعد الصدريين إلى المرشحين البدلاء، فإن مصير التيار الصدري ربما لا يتغير من منظور الحضور الشعبي في الشارع، لكنه بالتأكيد سيأخذ موقعا مختلفا كتنظيم سياسي.. خصوصا في ظل ما هو معروف عن مقتدى الصدر من تحركات مفاجئة وردود فعل غير متوقعة.
الشاهد أن الصدريين، الذين تحولوا بين عشية وضحاها من أغلبية برلمانية إلى موقع المعارضة ومن خارج البرلمان، سيظلون رقما صعبا في المعادلة السياسية، سواء كانوا داخل أو خارج البرلمان، فلن يتغير هذا الوضع كثيرا.. فقد غادر "الصدر" البرلمان، لكن لم يغادر الشارع العراقي.
وفي ظل عجز أي من القوى السياسية الأخرى عن بناء أغلبية سياسية واضحة وقوية لا داخل البرلمان ولا خارجه، ربما يفاجئ الصدريون الجميع بالتواصل والتنسيق مع المستقلين وبعض القوى السنية والكردية، ويصير للصدر وتياره كلمة قوية في الحياة السياسية داخل البرلمان، حتى وهو خارجه.
وما لم تبادر القوى السياسية الأخرى إلى مواكبة التغير في مزاج الشارع وتلبية متطلباته البعيدة تماما عن الطائفية، فإن المشهد السياسي العراقي كله معرض لتحولات جذرية لن تقتصر على أزمة تشكيل الحكومة وتكليف رئيس لها ولن تقف عند جدران البرلمان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة