في ذكراه.. كيف استخدم محمود درويش «الرموز الدينية» في قصائده؟
كانت الميثولوجيا الدينية جزءا أصيلا في شعر محمود درويش، والذي نشأ في مجتمع متعدد المذاهب والأديان أثّر في ثقافته.
درويش الشاعر ابن قرية البروة الفلسطيني والصحفي المنتسب للحزب الشيوعي الإسرائيلي هو نفسه درويش اللاجئ السياسي المطارد وعضو المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، لذلك كان من الطبيعي أن يستخدم الرموز الدينية للتعبير عن رؤيته لقضيته ومواقفه الاجتماعية والسياسية والتي تتغير وتتطور وتنحسر وتنكسر باختلاف الأحداث التي مرت بها المنطقة العربية.
إن استدعاء درويش للرموز الدينية لم يكن عبثا أو لأسباب فنية أو رجوع للتاريخ المحض، بل هو إحساس بالتراث الغني بالفعل الإنساني الذي يكتسب شرعيته الحاضرة بتأكيد فاعليته في الماضي، لذلك نرى أن الرمز الديني الواحد عند درويش قد يتغير باختلاف القصيدة / الزمن، فالمسيح الثائر في قصائد الستينيات عند درويش، هو نفسه المسيح المنكسر الذي تخلى عنه الجميع بعد أحداث صبرا وشاتيلا في الثمانينيات، وهو نفسه المسيح الذي مثل الصراع بين الجسد والروح في التسعينيات بعد اتفاقية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بأوسلو.
الرموز الدينية في قصيدة نشيد 1966
في الستينيات، برز شعر درويش الغارق في أحلام الوحدة العربية والثورة مثله مثل كثير من جيله في هذا الوقت، فكانت رموزه وشخوصه الدينية المستخدمة تعبيرا صريحا عن فعل المقاومة، وعودته للتراث العربي أمرا ضروريا لتماسك حلمه العربي.
"سنصنع من مشانقنا
ومن صلبان حاضرنا وماضينا
سلالم للغد الموعود
ثم نصيح: يارضوان
افتح بابك الموصود"
هنا يستخدم "الصلبان" وهي الرمز المسيحي الديني الشهير كسلالم يصل بها لغد أفضل وكأنه وصول نحو جنة من أحلام العدل والحرية، ثم نراه وقد مزج بين هذا الرمز المسيحي بآخر إسلامي وهو "رضوان" الذي يمثل في التراث الديني الإسلامي حامل مفاتيح الجنة وخازنها لينادي عليه الشاعر كي يفتح له أبواب الحرية الموصودة.
وكما كان الصليب رمزا للعذاب السرمدي الذي يعانيه الفلسطيني عند درويش، كان المسيح هو رمز الفداء والمقاومة التي خرجت من قلب المعاناة، فيستدعيه الشاعر على التليفون في قصيدته، ليتماهى المتكلم مع المخاطب في تجربة من التوحد الشعوري أو استبدال الأدوار، ليعبر بسؤاله اللأبدي لـ"ابن الله - المسيح" عن الخلاص من المعاناة فتأتيه البشارة بأن عليه أن يتجاوز آلامه ويتحدى الشدائد فاستمرار العذاب هو مضي للأمام نحو الخلاص الجميل.
"ألو...
-أريدُ يسوعْ
-نعم ! من أنت؟
-أنا أحكي من "إسرائيل"
وفي قدمي مساميرٌ.. وإكليلْ
من الأشواكِ أحملهُ
فأيُّ سبيلْ
أختار يا بن اللهِ.. أيُّ سبيلْ؟
ثم يستكمل درويش استحضار الشخصيات الدينية واستبدال الأدوار ، فيتحدث إلى نبي الإسلام فيسميه "محمد العرب" وكأنه أصبح رمزا عربيا خالصا مقاوما بعروبته تهويد الأرض، فيشكو له المنفى وغربته عن الوطن التي أحاطت به كأسوار السجن في دلالة واضحة لما لاقاه نبي الإسلام من نفي واضطهاد في بداية دعوته حينما هجر من مكة إلى يثرب.
"ألو
-أريدُ محمدَ العربِ
-نعم ! من أنت؟
-سجينٌ في بلادي
بلا أرضٍ
بلا علمٍ
بلا بيتِ
رموا أهلي إلى المنفى
وتبلغ ذروة الدلالات الدينية عند درويش حين يتخطى الحاجز النفسي في صراعه مع إسرائيل، وينادى النبي "حبقوق" وهو أحد أنبياء اليهود الذي قاوم وثار على ظلم "الكلدانيين" حينما استعمروا الأراضي اليهودية واستعبدوا اليهود لخدمتهم في بابل، ليعبر درويش بصرخة حبقوق نفسها ضد الظلم ويصرخ بعروبته كما صرخ حبقوق بيهوديته، لتظل في ذاكرة القصيدة بشارتة في العهد القديم "أن الله آت وسيهشم رأس بيت الشرير".
" ألو. هالو !
أموجودٌ هنا حبقوقْ؟
-نعم من أنت؟
-أنا يا سيّدي عربي
وكانت لي يدٌ تزرعْ
تراباً سمّدتهُ يدا وعينُ أبي
الرموز الدينية في قصيدة مديح الظل العالي 1983
تمضي السنون بعد هزيمة العرب على يد إسرائيل عام 1967، وينتقل الشاعر سائحا هائما من القاهرة إلى بيروت ليعيش مشهدا من أطول وأقسى التجارب المؤلمة في حياته، وتدخل القضية الفلسطينية في نفق الثمانينيات، ويهرب درويش إلى طرابلس ثم لدمشق، وتخفت روح الثورة والمقاومة في قصائد درويش، فيحل الدم المراق والموات والوحدة والشعور بتخلي الجميع عنه، فتأتي قصائده مختومة بأصابع القتلى، مبحرة بهوية قلقة من بحار بيروت لتذهب بدرويش نحو صياغات أكثر تراجيدية ومأساوية، فيكتب (مديح الظل العالي)
إن الصليب مجالك الحيويُّ
مسراك الوحيد من الحصار
إلى الحصار
ويستدعي درويش الشخصية التراثية "مريم المجدلية" والتي كانت أهم التلميذات النساء ممن لازمن المسيح في دعوته، إلا أن ألغاز شخصيتها الإنجيلية مارست أكبر تأثير على المخيلة الأدبية والشعبية، فهي العاصية الزانية التي تابت على يد المسيح، ولكنها في نفس الوقت الشاهدة البصرية الأولى للمسيح القائم من القبر والمبشرة الأولى للبشرية جميعا بصعوده، لذا فإن استدعاء درويش لها إنما هو إعلان للشقاء السرمدي وتحول الخلاص الإلهي إلى لعنة النهايات الحزينة، فنرى "الإنجيل" وقد اتشح بالسواد، وتوبة تعلن عن اختفاء "ملائكة" وسط دمار شاهده درويش حوله في كل جانب.
اليوم إنجيل السواد
اليوم تابت مريم عن توبة التوبات وارتفع الحداد
إلى جبين الله
واختفت الملائكة الصغيرة
في أكاليل الرماد
والكل عند درويش قد باع فهو يقف الآن وحيدا عاريا من روحه هزيلا أمام الهزيمة، فبقي بتجربته الإنسانية وحيدا، ولم يبق صبرا يليق بالموقف بعد أن مات (أيوب)، ولم يبق مستحيلا سيتحقق ولا خلودا سيكون فقد مات (العنقاء)، ولا نصرا آتيا فقد تخلى عنا الصحابة وانصرفوا.
" وحدي على سطح المدينة واقف
أيوب مات، وماتت العنقاء، وانصرف الصحابة
وحـــدي.. أراود نفسي الثكلى
فتأبى أن تساعدني على نفسي
ووحـدي.. كنت وحدي
ويتجلى استخدام الشاعر للرمز الديني في القصيدة، عند استحضاره للنبي (أشعيا) وهو النبي اليهودي الذي أحدث ثورة لاهوتيه كانت سببا رئيسيا في تحول الشكل الإلهي من يهوه إله الحروب والقتل والعسكرية، إلى الله المحب الكوني رمز السلام.
" أُنادي أشعيا:
أخرج من الكتب القديمة مثلما خرجوا
أزقة أورشليم تعلق اللحم الفلسطيني
فوق مطالع العهد القديم
وتدّعي أن الضحية لم تغير جلدها
يا أشعيا.. لا ترث بل أهج المدينة
كي أحبك مرتين
وأعلن التقوى
كان استضافة درويش للنبي "أشعيا" في قصيدته كاشفا لرفضه الحروب المقدسة باسم الأديان وتيمة الاحتلال والتهجير والسبي، وسط حروب دينية ومذهبية وطائفية عاشها في بيروت، ليتحول الخيال عنده إلى تحرر من الصورة النمطية للرموز الدينية لبراح أكبر على الحلم الإنساني، ليكون متنفسا له يبث فيه آلامه وأحزانه وأحلامه.
الرموز الدينية في قصيدة الجدارية 1998
بعد أن توالت الأحداث والانكسارات العربية المتوالية وحاصر الموت درويش من كل جانب مرورا باتفاق أوسلو وانتهاء حلم المقاومة، ثم دخوله في تجربة إنسانية لعملية جراحية شارف فيها على الموت، انكسر على روحه وانكفأ على أحزانه وأصبحت القصيدة عنده أقرب للعزف المنفرد، فيخرج درويش بالرمز الديني للموت التقليدي إلى وصفه بالظل الأليف فيجرده من صورته المفزعة، ليراه فعلا إنسانيا جميلا غير عدائي، فيرسم ملامحه المتخيلة على جداريته، فيناديه، ويتفاعل معه، ويستجديه، ويسخر منه، ويهزمه ويستدر عطفه، وينتصر عليه، أو ربما يعايره بعجزه.
وحدك
المنفيُّ يا مسكين، لا امرأةٌ تضمك
بين نهديها، ولا امرأةٌ تقاسمك
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحي
المرادف لاختلاط الأرض فينا بالسماء
ولم تلد ولدًا يجيئك ضارعًا: أبتي،
أحبك. وحدك المنفي يا ملك
الملوك، ولا مديح لصولجانك
يستخدم درويش في قصيدته "جدارية" رؤية غير مألوفة للرمز الديني وكأنه يشيد شكلا جديدا تماما للنهاية عن المخزون المعرفي والشعوري المتراكم للتراث الديني، فالموت أصبح فعلا عاديا أو عبثيا يعانيه الشعب الفلسطيني كل يوم، فلا آهات معذبين ولا فرحة بنعيم منتظر بعده، ليتجاوز الطبيعي والغيبي معا لمعنى مجرد أشبه بالرؤية الصوفية لوحدة الوجود.
جئت قبل ميعادي
فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي:
"ماذا فعلت، هناك في الدنيا؟
ولم أسمع هتاف الطيبين ولا
أنين الخاطئين، أنا وحيد في البياض
أنا وحيد
لا شيء يوجعني على باب القيامة
لا الزمان ولا العواطف
لا أحس بخفة الأشياء
أو ثقل الهواجس
وفي محاولته لمقاومة الموت نراه يخالف رواية المسيح فيرفض الصعود للصليب، ويرفض الموت مطمئنا ويفضل الاستماع إلى نبضات قلبه، وكأنه يخلق في القصيدة مسيحا جديدا يمثل صراعه من أجل إنسانيته
لكني نزلت عن الصليب
لأنني أخشى العلو،
ولا أبشِّر بالقيامة
لم أغير غير إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحًا
كان إصرار درويش على الحياة في القصيدة كبيرا حينما حاول صداقة الموت أو تغيير مفهومه، لذا فقد تخطى الأديان الإبراهيمية الثلاثة ليستحضر ملحمة "جلجامش" الملك السومري الذي قدم للتراث البشري أقدم رحلة للبحث عن الخلود، ولكن باءت تجربته بالفشل، ويتضح التداخل الرمزي أكثر كلما رأينا الشاعر يتكلم عن جلجامش بصفة المتكلم وكأنه يستعيد مأساته العارية أمام حقيقة الموت الباقية.
كل شيء باطل، فاغنم
حياتك مثلما هي برهة حبلى بسائلها،
دم العشب المقطر.. عش ليومك لا
لحبك. كل شيء زائل
لقد كانت الجدارية عملا فنيا يختزل سؤال الوجود / المصير، و جدارا بناه درويش لمقاومة الموت وتقبله، و ملحمة ذاتية لمواجهة سلطة أعلى خارجية، ليلتصق بالوجود الإنساني عبر خلق واقع جمالي ووجداني يخرج من رحم المحنة والعذاب.
لقد أدرك درويش في هذه المرحلة أنّ الشعر لا يعتمد على المباشرة وهذا ما يفسر التحول النوعي الذي ميز قصائده في هذه الفترة مقارنة بالقصائد القديم، فبات يتعامل مع الرموز الدينية باعتبارها حقيقة، في محاولة منه لخداع الواقع من حوله بل وتجاوزه. فاحتشدت الجدارية بتراث تلبسه درويش وتجسده وكأنه يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب جمهوره.