يؤدي الخوف بدوره إلى استثارة غريزة حب البقاء لدى الإنسان، التي تصبح الفكرة المتحكمة، ويتراجع صوت العقل والقدرة على التفكير المتزن
أصبح الحديث عن الأزمة التي سببها وباء فيروس كورونا هو الشغل الشاغل للشبكات التليفزيونية والتعليقات الصحفية والقضية الأولى التي يتابعها الرأي العام في كل دول العالم تقريباً يوما بيوم وساعة بساعة، وظهرت تحليلات وآراء عن الآثار التي سوف يخلفها هذا الوباء. فالبعض ركز على الآثار السياسية وازدياد دور الدولة وتدخلها في شؤون المجتمع والمواطنين وتوجيهه وفقاً لقواعد صارمة، حتى إن أحد القضاة السابقين في المحكمة العليا بالمملكة المتحدة حذر في 30-3 من خطورة أن تتحول بريطانيا إلى دولة بوليسية.
والبعض الثاني ناقش الآثار الاقتصادية وتراجع معدلات النمو الاقتصادي العالمي في الدول الكبرى واحتمال سقوط بعضها في براثن الركود. ومن أمثلة ذلك تقرير البنك الدولي الذي صدر أيضاً في 30-3.
والبعض الثالث أشار إلى الآثار على مستوى النظام العالمي والتوازن الدولي وتوزيع القوة والنفوذ بين الدول الكبرى، ومن أمثلة ذلك التحليلات التي نشرتها "مجلة السياسة الخارجية" الأمريكية لعدد اثني عشر خبيراً وباحثاً حول هذا الموضوع.
وأود أن أركز في هذا المقال على موضوع آخر لم يلق اهتماماً مماثلاً من وسائل الإعلام، وهي الآثار النفسية على البشر أنفسهم. فهناك في المقام الأول، أن هذا الوباء حطم العالم الداخلي الخاص بملايين البشر، وفتك بأحلامهم وأفقدهم توازنهم النفسي. فهناك ملايين من طلاب الجامعات الذين كانوا ينتظرون بشغف تخرجهم في يونيو أو يوليو المقبل، ليبدأوا رحلة البحث عن عمل ومعه حياة جديدة لهم. وهناك ملايين من العمال والموظفين في مجالات السياحة وشركات الطيران والمحال التجارية وغيرها الذين فقدوا وظائفهم. وهناك الملايين من اللاجئين الذين يعيشون في الخيام أو مراكز الإيواء التي لا تتوفر فيها -في الظروف العادية- الحد الأدنى من الخدمات الصحية اللازمة ولا توجد السلطات الصحية التي تراقب انتشار المرض وتجري الاختبارات، فضلاً عن صعوبة عزل المصابين أو المشتبه في إصابتهم.
يؤدي الخوف بدوره إلى استثارة غريزة حب البقاء لدى الإنسان، التي تصبح بدورها الفكرة المتحكمة في سلوك البشر، يتراجع صوت العقل والقدرة على التفكير المتزن فيما يدور حوله، وتستبد به رغبة البقاء في الحياة، وتسود عقلية القطيع.
وهناك مئات الآلاف الذين كانوا خارج بلادهم ثم تقطعت سبل الاتصال ولا يتمكنون من العودة إليها وليس لهم مصدر دخل في أماكن إقامتهم أو سبب يدعوهم للاستمرار في الإقامة فيها، ومن ذلك السياح والطلاب الذين يدرسون بالخارج، والعاملون خارج بلادهم، وكل هؤلاء هم من يطلق عليهم العالقين في الخارج. وهناك مئات الآلاف الذين فقدوا ذويهم وأحباءهم ولم يتمكنوا بسبب الظروف الراهنة من إلقاء نظرة الوداع عليهم أو المشاركة في دفنهم.
يزيد من صدمة هؤلاء معرفتهم بأن وفاة ذويهم وأحبائهم ربما كانت بسبب نقص مستلزمات العلاج. ففي أغلب دول العالم بما في ذلك الدول المتقدمة مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا عانى نظامها الصحي من هذا النقص؛ خاصة أجهزة التنفس الصناعي، فقد تجاوز عدد المصابين عدد الأجهزة المتاحة، وكان على الأطباء أن يتخذوا قرارات صعبة ومؤلمة بشأن من تكون له الأولوية في استخدام الجهاز.
وهذه النماذج هي حالات لمآسٍ إنسانية تعرض أصحابها لضغوط نفسية مروعة وغير متوقعة ولم يكن لهم شأن أو مسؤولية فيها.
ويوجد جانب ثانٍ للموضوع، فالإنسان الذي يخضع اليوم لإجراءات لم يتعرض لها على مدى ما يزيد على قرن، وهي بالتأكيد أكثر صرامة مما شهدته البشرية في الحرب العالمية الأولى أو الثانية. فهذه الإجراءات بالتأكيد أكثر شمولاً من حيث عدد الناس الذين تشملهم، وعدد الدول التي تنفذ فيها، والمدة التي تستغرقها من أي إجراءات سابقة.
يتعرض أغلبية البشر في العالم إلى إجراءات عزل أو حجر صحي، والتزام بالبقاء في المنازل ومنع التجوال في الشوارع، وقواعد للتباعد الاجتماعي وجوهرها أن تكون هناك مسافة مترين على الأقل بين أي شخصين.
هذه الإجراءات لها بالطبع ما يبررها وينبغي الالتزام بتطبيقها حرفياً، وأن تقوم السلطات بمراقبة تنفيذها. ولكن ينبغي أيضاً أن ندرك أنها مخالفة للطبيعة البشرية، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه. وفي العصر الحديث، ينشأ الإنسان في إطار التفاعل مع آخرين في الأسرة والمسجد والكنيسة ومكان العمل والنوادي والمقاهي إلى غير ذلك من أشكال التنظيم الاجتماعي.
ويبلور الإنسان شخصيته ويجد معنى لحياته في هذا السياق الاجتماعي، لذلك فعندما تفرض الظروف عليه وقف هذه الاتصالات والتفاعلات وأن يعيش في عزلة أو مع أعضاء أسرته المباشرين فقط، فإنه تعتليه مشاعر أخرى، تبدأ من التذمر وعدم الرضا وصولاً إلى الإحباط والاكتئاب ويختلف ما يحدث لكل فرد لمدى صلابته الداخلية وقدرته على مقاومة الضغوط والتوترات النفسية. ويكون عليه أن يتكيف مع هذا الوضع الجديد، وأن يجد ما يشغله ويصرف ذهنه عن التفكير في عزلته المادية. ومن ذلك مثلاً أنه في أوروبا ازدادت نسبة التردد على المواقع الخاصة بألعاب الفيديو الإلكترونية بشكل ملحوظ.
وهناك جانب ثالث للموضوع، فالإنسان يعيش اليوم في حالة "خوف دائم" وأحياناً "هلع"، وذلك بسبب الأخبار التي تحاصره طول الوقت بشأن عدد الإصابات والوفيات، فيأتيه الشعور بأنه ربما يكون هو الضحية القادمة لهذا الفيروس القاتل. يزيد من حالة الخوف أنه يقي نفسه من عدو خفي وغير منظور يتربص به في كل مكان وفي كل وقت. ولما كان الفيروس ينتقل أساساً بالمخالطة البشرية، فإن كل شخص آخر هو عدو محتمل وناقل للمرض. يؤدي هذا بالإنسان ليس فقط إلى الحيطة ولكن أحياناً إلى الريبة والشك في كل الأشخاص الذين لا يعرفهم ويضطر للوجود في مكان واحد معهم كمحلات بيع المواد الغذائية.
يؤدي الخوف بدوره إلى استثارة غريزة حب البقاء لدى الإنسان، التي تصبح بدورها الفكرة المتحكمة في سلوك البشر، يتراجع صوت العقل والقدرة على التفكير المتزن فيما يدور حوله، وتستبد به رغبة البقاء في الحياة وتسود عقلية القطيع.
ومن ذلك مثلاً، التكالب على شراء السلع الغذائية وتخزينها، والتكدس في أماكن بيع هذه السلع أو في وسائل النقل العام رغبة في العودة إلى المنزل مبكراً. حدث هذا في عدد كبير من الدول، بغض النظر عن درجة تقدمها. ومنها إسراع البعض بسحب أموال من حساباتهم في البنوك والاحتفاظ بها في منازلهم تخوفاً من احتمالات المستقبل المجهول، وشهدت الولايات المتحدة ظاهرة ازدياد نسبة مبيعات الأسلحة، وذلك لازدياد التخوفات من احتمالات انفلات اجتماعي ومخاطر أمنية تهدد الأرواح والممتلكات.
والجدير بالتسجيل في هذا الشأن، أن فيروس الكورونا أثبت وحدة الإنسان ووحدة الجنس البشري، وسقطت الدعاوى عن أن شعوب الدول المتقدمة تتسم بثقافة العقلانية والتفكير العلمي مقارنة بشعوب الدول النامية والمتخلفة التي تتحرك وفقاً لعواطفها وغرائزها. وطرحت النظريات النفسية في موضوع التحديث، أن طريق التقدم بالنسبة لهذه الدول يتطلب أن تأخذ بثقافة قيم الرشادة والعقلانية. وأتت الأحداث الراهنة لتوضح أنه في ظل ظروف الأزمة والخوف على الحياة فإن هناك قواسم مشتركة بين كل البشر، وإن الأغلبية تتصرف بنفس الطريقة.
والرسالة التي أريد أن أنقلها هي أن هناك جوانب نفسية وإنسانية لما يحدث في العالم اليوم علينا إدراكها، ويضاعف من وطأة هذه الآثار السلبية هي أن أحداً لا يعرف كم سوف تستمر هذه الأوقات العصيبة، ولا حجم النفوس والضحايا التي سوف تفتك بها، ولا كيف سوف تنتهي، وتسود حالة من السيولة وعدم اليقين بشأن الإجابات عن هذه الأسئلة فلا يوجد شيء مؤكد ولا تبدو نهاية واضحة. والمطلوب من المسؤولين عن التربية والتعليم والثقافة والإعلام في بلادنا العربية، أن يتدبروا هذه الأمور وأن يتعاملوا مع هذه الآثار من خلال خطاب يقلل منها، ويعد الإنسان العربي لمرحلة ما بعد كورونا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة