كاسترو وماركيز .. ديكتاتورية الصداقة
الزعيم الكوبي كان “يصحح” مخطوطات صاحب “مائة عام من العزلة”
كيف يمكن أن تكون العلاقة بين حاكم متفرد وكاتب مبدع؟ هذه الفكرة هي التي تقف وراء كتاب“فيديل وغابو: صورة شخصية عن الصداقة الأسطورية بين فيديل كاسترو وغابرييل غارسيا ماركيز”.
كيف يمكن أن تكون العلاقة بين حاكم متفرد وكاتب مبدع؟ هذه الفكرة هي التي تقف وراء الكتاب الذي نشرته المحاضرة في الدراسات الأمريكية الإسبانية واللاتينية في جامعة أستون الأمريكية، ستيفاني باننيشيلي بتالا Stéphanie Panichelli-Batalla، في كتابها “فيديل وغابو: صورة شخصية عن الصداقة الأسطورية بين فيديل كاسترو وغابرييل غارسيا ماركيز”.
تعود المؤلفة إلى البدايات الأولى لهذه الصداقة وتتابع تطورها حتى غياب صاحبيها في أوقات غير متباعدة.
هنا إضاءات على تلك الصداقة من الكتاب:
عندما التقى مؤلف "مئة عام من العزلة" الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو، لأول مرة، توهجت بينهما تلك الكيمياء الشخصية، التي تجعل من الصداقة بين إثنين عصية على التوصيف. لذلك فإن ملايين القراء حول العالم، الذين يعتبرون غابرييل غارسيا ماركيز، أيقونتهم الثقافية في عالم الرواية، يقفون حيرى أمام علاقته مع كاسترو، الذي كان يتولى “تصحيح” مخطوطات ماركيز قبل طباعتها، حسبما تقول إشاعة أصبحت بمثابة حقيقة.
استحق المؤلف الكولومبي عن جدارة جائزة نوبل للآداب، وهو واحد من الكتّاب اللاتينيين الأكثر قراءة في العالم، وروايتيه “مائة عام من العزلة” و”الحب في زمن الكوليرا”، ترجمتا إلى عشرات اللغات. ولكن على الرغم من هذا الاحتضان لأعماله، يجد الكثيرون صعوبة في فهم مواقفه السياسة، وخصوصا صداقته المتينة مع فيديل كاسترو.
العلاقة بين الأسطورتين اللاتينيتين، بدأت قبل سنوات قليلة من انتصار الثورة الكوبية، عندما التقى غابرييل غارسيا ماركيز ( "غابو") الشاعر الكوبي نيكولا غيين في باريس، الذي حدثه عن طالب قانون شاب اسمه فيدل كاسترو، باعتباره الشخص القادر على إسقاط نظام الديكتاتور فولجنسيو باتيستا. التقى جابو كاسترو لأول مرة في عام 1959 بعد انتصار الثورة - عندما دعا الزعيم الكوبي الصحفيين من جميع أنحاء العالم لتغطية عملية Verdad، وهي الخطة التي وضعها لملاحقة المتعاونين مع الديكتاتور السابق باتيستا. تبادل الرجلان في تلك المناسبة بضع جمل فحسب.
انتصار الثورة وإقامة مجتمع اشتراكي في كوبا مثّل ترجمة لآمال ماركيز من أجل مستقبل أفضل لأمريكا اللاتينية، فانضم مع مئات المثقفين من بلدان أمريكا اللاتينية لدعم الثورة الكوبية بقيادة كاسترو. ولكن هذه الرحلة الرومانسية اصطدمت عام 1968 باندلاع قضية باديلا، كمؤشر على نهاية حرية التعبير والرأي في كوبا. فقد اعتقلت السلطات الثورية الشاعر هيبرتو باديلا، الذي كان ينتقد ثورة كاسترو، وأخضعته لمحاكمة صورية، ما أصاب بالرعب العديد من أنصار كاسترو المثقفين، ومن بينهم الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل. لكن “غابو” لم يتوقف كثيرا عند هذا الحدث، وواصل تقديم دعمه المفتوح لكاسترو ونظام حكمه.
حتى هذه المرحلة لم يكن غابرييل غارسيا ماركيز قد اقترب بشكل شخصي من كاسترو، رغم أنه بذل العديد من المحاولات للاقتراب منه، واقناعه بصدق التزامه حيال “ثورته”. ولكن في العام 1977، حدث العكس، فقد قرر الزعيم الكوبي التعرف على ماركيز بعدما قرأ عدة مقالات كتبها عن الثورة الكوبية. كان كاسترو، في تلك السنة، يستعد لإعطاء مقابلات مع صحفيين من وكالتي “فرانس برس” و”رويترز”، ولكنه بدلا من ذلك ظهر فجأة في فندق ناسيونال دي كوبا، حيث كان يقيم غابو، وطلب منه التحدث معه. ناقش الرجلان آخر رحلة قام بها غارسيا ماركيز في أنغولا وقضايا تتعلق بالإقامة في بلد أفريقي، مثل الطعام. وقال جابو في وقت لاحق إنه لم يلتق أي شخص يعرف الكثير عن المأكولات البحرية مثل كاسترو. هذا اللقاء الشخصي الأول بينهما تحول إلى لقاء دائم وحميم. وعلى الأثر تم إلغاء مقابلة كاسترو مع الصحفيين المنتظرين، فيما رافق الزعيم الكوبي ماركيز إلى مطار هافانا لتوديعه.
على مر السنين، تطور هذا اللقاء الأول إلى صداقة حقيقية. وقد قال ماركيز دائما إنها صداقة قائمة على أساس مشترك من الاهتمام بالأدب. قضى “غابو” فترات طويلة في هافانا مع زوجته مرسيدس. وكان كاسترو يقوم بزيارات متكررة له في منزله في هافانا (الذي كان هدية من كاسترو) في أي وقت من النهار أو الليل. وقد وصف المؤلف النوبلي صديقه الزعيم بأنه متعطش دائم للقراءة، وبأنه قد يبدأ بقراءة كتاب في الليل، ويقوم بالتعليق عليه في اليوم التالي. وأضاف بأنه لم يفهم أبدا، كيف يستطيع هذا الرجل المشغول، إيجاد الوقت للقراءة المتأنية. فبعد قراءته لكتاب “قصة البحار الغريق” أبدى له رأيا تفصيليا حول سوء تقدير في سرعة القارب. ومنذ ذلك الحين راح ماركيز يعرض على كاسترو مخطوطاته قبل نشرها، وبالفعل فإنه كان يضع عليها مجموعة من الملاحظات والتصويبات. ما جعل صاحب “خريف البطريرك” يصرح بأنه لن ينشر كتابا قبل أن يعرضه على كاسترو.
وفي الوقت نفسه، كان “غابو” أيضا قادرا على ممارسة النفوذ على الزعيم الكوبي. ويشير النقاد إلى أن غارسيا ماركيز لم يتكلم علنا بشكل سلبي عن طريقة كاسترو في حكم كوبا. ومع ذلك، لابد من الإشارة إلى أن العديد من أصدقائه المقربين مثل أنخيل استيبان، قالوا: إذا كان هناك شخص وحيد لا يخاف من أن ينتقد كاسترو، فهو غابرييل غارسيا ماركيز. لكن “غابو” كان يفضل مناقشة انتقاداته مع كاسترو نفسه. وعلى سبيل المثال، ففي حالة الجنرال الكوبي السابق أورنادو أوتشوا والعقيد توني دي لا جوارديا، الذيين أعدما بتهمة تهريب المخدرات في العام 1989، فقد ذكرت ابنة الجنرال إن ماركيز تدخل لتغيير قرار كاسترو دون أن يفلح في ذلك، لكنه حقق نجاحا ملحوظا بعد ذلك، عندما تمكن من اقناع الزعيم الكوبي باطلاق سراح العديد من السجناء السياسيين البارزين، مثل باديلا، ونوربيرتو فوينتيس، وأرماندو فاياداريس.
في 17 أبريل/أيلول 2014 - يوم وفاة غارسيا ماركيز - نشرت صحيفة غرانما الكوبية مقالا عن الأثر الذي تركه رحيل الكاتب في نفس الزعيم، لكن ما كان مجالا للتعليقات المستهجنة هو إن فيديل لم يقل أي شيء علنا عن وفاة ماركيز، ولكنه أرسل فقط إكليلا من الزهور يحمل عبارة "صديقي الأحب".
في كل الأحوال فإن العلاقة بين الرجلين، الكاتب الكولومبي المبدع والزعيم الكوبي الفرد، لا تمثل نموذجا للعلاقة الممضة بين المثقف والحاكم. فقد ظلت هذه العلاقة ـ خصوصا في العالم الثالث ـ موضوعا لتجاذب تحكمه قاعدة الهجاء أو الاستغناء. لم يشعر المثقف في العالم الثالث بحاجته الماسة للسياسي خصوصا عندما يكون فوق كرسي الحكم، وفي المقابل فإن السياسي لطالما اعتبر المثقف عبئا ينبغي تجاوزه إن لم يتمكن من إلغائه.
بهذا المعنى فإن علاقة ماركيز وكاسترو لا تعبر عن حاجة متبادلة، ولا تعكس أيضا تماهيا غير ضروري بين طرفين قد يتقطعان ولكنهما بالضرورة لن يتحدا. فماركيز كان ثوريا حتى الأعماق وهو يكتب رواياته، وقد جعل من “عقيده” اورليانو أركاديو بونديا في “مائة عام من العزلة”، ثائرا أبديا يقود انتفاضات مسلحة متتالية لتحقيق حلمه. فيما انطلق فيديل كاسترو مع صديقه التاريخي تشي غيفارا، من خلفية ثقافية آيديولوجية حاكم من خلالها الأفكار والناس والأشياء، قبل أن يقود حفنة من الثوار إلى جبال سييرا مايسترا، لكي يسجل من هناك تحولا سوف يعيد رسم ملامح أميركا اللاتينية بكاملها.
إذن، هل يمكن القول إن العلاقة بين الرجلين ماركيز وكاسترو كانت صداقة ذات إنساني محض، قبل أن تكون علاقة سياسية/ ثقافية؟ كل إجابة عن هذا السؤال تبدو صحيحة، طالما إن الصداقة هي التي تفرض ديكتاتوريتها على طرفيها..