سحر كاسترو يحطّم قواعد علم السياسة في الكثير من البلدان وحتى القارات. كذلك عبد الناصر في مصر والعالمين العربي والمسلم.
صدرت صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي "الأومانيته" صباح أمس وعلى غلافها صورة فيديل كاسترو "الذي قاد شعبه إلى الحرية" كما تضمن المقال الرئيسي. لم تفوِّت القناة الثانية على التلفزيون الفرنسي فرصة الصيد السهل في مناسبة كهذه لتعرض في برنامجها الصباحي صورة غلاف الجريدة نفسها عندما مات "الكبير جوزف ستالين" في 5 آذار 1953 وعليها هذه الجملة: "كل الشعوب في حداد".
بعد أن تجاوزتُ عمرَ المراهقة السياسية ثم عمرَ بداية ممارسة الشأن العام، وأخذت قيمُ الديموقراطيةِ تتقدّم عندي على القيم الثورية، هناك شخصان حاولتُ، وأظن كان هناك كثيرون وكثيرات مثلي، أن أدرِّب نفسي على كراهيّتهما باعتبارهما ديكتاتورَيْن... ولم أنجح مطلقاً.
الأول هو جمال عبد الناصر والثاني هو فيديل كاسترو. حتى النقد اليساري الذي وُجِّه لعبدالناصر بعد مسؤوليته الأكيدة والفادحة عن هزيمة 1967... هذا النقد لم ينفع خطابُه الثوري في إحداث قطيعة عاطفية لي معه كرمز. باختصار، فشلتُ في أن لا أحبهما كقائدين رغم العدة الوازنة ضد تجربتيهما.
سحر كاسترو يحطّم قواعد علم السياسة في الكثير من البلدان وحتى القارات. كذلك عبد الناصر في مصر والعالمين العربي والمسلم.
عبد الناصر موضوع قديم ودائم وطويل. دعونا اليوم نقف عند سر الساحر كاسترو الذي سكت جسده.
رؤساء جمهورية منتَخبون وغير يساريين في أميركا اللاتينية ظلّوا يتسابقون بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعه معظم المحيط العالمي للنظام الكوبي، على اللقاء به وأخذ صورة معه بل والتنسيق السياسي معه، رغم الضغط البوليسي الذي كان يمارسه نظامه على المعارضين. مثقّفو أميركا اللاتينية حتى بعد انتقال معظمهم من "الاشتراكية العلمية" إلى الليبرالية أو "الاشتراكية الديموقراطية" بقيَ في قلوبهم وبمعنى ما في عقولهم بسبب خصوصية النظرة الأميركية اللاتينية إلى الولايات المتحدة كامبريالية عريقة منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر ونشوء مبدأ مونرو الذي عنى ولا يزال أن أي تحول سياسي أو عسكري في تلك القارة يهدد مصالح الولايات المتحدة، وبالتالي هي المسؤولة وحدها عنه عبر جواز التدخل العسكري لمواجهته.
كان كاسترو أيقونة أصبحت فوق اليمين واليسار. كاريزما بل أسطورة، فعلاً حية، عمَّرَت عقوداً ولم يخرق جاذبيتها موت اليسار الشيوعي أو تَحَوّلُهُ إلى عنصر هامشي في الصراع الدولي. كاريزما غيفارا بما تحمل من عناصر درامية وغير سلطوية ونهايته الفجائعية حوّلته إلى نوع من "إمام حسين" معاصر. الخاسر الشهيد. الخاسر بسهولة. لا مشروعه في بوليفيا وأفقه المسدود سياسياً وموته مقتولاً ومهملاً ومجهولاً حالا، هذا المشروع وذاك الموت، حالا دون أن ترتفع صوره في غرف نوم ملايين الشباب والشابات في العالم، يمينيين ويساريين وغير مسيَّسين. كان غيفارا نجماً رجولياً مأسوياً بينما كاسترو كان ظاهرة سلطوية متمردة استثنائية.
كاسترو هو رجل سلطة صافية عتيّة شعبية في البداية ثم مغلقة تسلطية لاحقاً... مع ذلك بقيت دائماً حرارة لهذا النظام الكوبي تختلف عن برودة ورتابة الأنظمة الشيوعية الأوروبية الشرقية.
وحدهم كوبيو فلوريدا كانوا قاطعين في كراهيتهم لكاسترو. فهم الهاربون بمشقة من قمع لم يروا غيره ويعرفونه من داخله بلا أقنعة ولا مبررات، بينما في أميركا اللاتينية كان الديكتاتور كاسترو يجذب إعجاب نخب كثيرة. في فرنسا الجدل حول كاسترو جزء من إرث اليسار. كان عناده في مقاومة أسطورية للعزل الأميركي (الأسطوري أيضا) لنظامه وجزيرته مدعاة احترام عالٍ. وقد أنهاه الرئيس باراك أوباما مؤخراً.
كان يساريو القارة اللاتينية يهربون إليه في زمن قمع الطُغم العسكرية التي تضاءلت مع موجة "نهاية التاريخ" الليبرالية الأميركية. وأخذت "جمهوريات الموز" تتساقط منذ نهاية السبعينات بينما كوبا، كوبا النظام البوليسي القوي، لم يسمِّها أحدٌ جمهوريةَ موز. وإذا لم أكن مخطئاً فإن عمالقة روائيين من أميركا اللاتينية كماركيز وإستورياس وماريو ليوزا قدّموا بشكل مبدع شخصية الديكتاتور العسكري اللاتيني فتحولت معهم إلى نموذج عالمي للبطريرك السياسي الشمولي، ولكن في حدود علمي لم يكن كاسترو من بينهم رغم العديد من الروايات الأميركية حول الموضوع. أصلا هناك علاقة شخصية شهيرة بين (الراحل) غارسيا ماركيز وكاسترو وكتب كاسترو مرة خلال "تقاعده" مقالاً قال فيه إن ماركيز يتصرّف كرئيس دولة بسبب كثافة صداقته مع الزعماء السياسيين. وكان الرفيق فيديل يعرف كيف يستخدم كاريزماه فيستقبل نجوماً ونجمات من هوليود ناهيك عن شخصيات مختلفة كانت تذهب لـ"تتفرج عليه".
توفّر لي عام 1979 في مؤتمر دول عدم الانحياز أن أشاهده من مقاعد الصحافيين في هافانا يلقي خطاب الافتتاح وفي القاعة رؤساء دول مثل حافظ الأسد وصدام حسين وزعماء كياسر عرفات.
كان كاسترو موضوعاً ثقافياً وشخصية عالمية مؤثرة ولو مختَلفاً عليها. وكعبد الناصر، مع مدى دولي وأيديولوجي ربما أوسع، سابقاً، كان بسبب دوره جزءاً لا يتجزّأْ من مهابة ثورات معاصرة شغلت العالم سياسياً وثقافياً وأخلاقياً كالثورة الجزائرية. ولهذا يأتي حِداد الجزائر على وفاته في مكانه تماماً بسبب حجم وتاريخ هذه العلاقة.
كان رجل زمن انتهى، وأسطورة مستمرة، زمنِ قيم ثورية تحملها منظمات وأنظمة قاسية. كوبا نفسها التحقت أخيرا بالزمن الجديد، وبنجاح أكثر التحقتْ فييتنام الشيوعية الحالية التي تعتبر إحدى حليفات الولايات المتحدة الاقتصادية ضد الصين في انعطاف واشنطن الشرق آسيوي في عهد أوباما - هيلاري كلينتون والذي بدأ يعيد النظر فيه دونالد ترامب بعد فوزه وقبل حتى توليه للرئاسة.
على المستوى الثقافي فإن سحر شخصية كاسترو هو جزء من لغز، نعمْ لغز، معاصر اسمه في أوروبا ومعظم العالم الثالث، عدا أميركا الشمالية، انحياز المثقفين لأنماط الانتماء اليساري، لا بل أن اليسار كاد يحتكر إنتاج صورة المثقف المعاصر.
بمعنى ما كان كاسترو جزءاً من هذا اللغز المستمر. ينتهي الزمن السياسي للرمز ويبقى الرمز بل، يا لَلّغز، يزداد تألقاً.
من دون ماو بقيت الصين شيوعية سياسياً، ولو أنها تحولت إلى القوة الثانية في النظام الرأسمالي العالمي.
فييتنام من دون هوشي مينه دخلت النموذج الصيني نفسه بأحجام أقل طبعاً، ولكنها في طريقها لتصبح نمراً (شرق) آسيوياً وبالتحالف الاقتصادي مع الولايات المتحدة والتنافس السياسي مع الصين. فتاريخ فييتنام في تلك المنطقة، جنوب شرق آسيا، هو تاريخ "امبراطورية فرعية".
كوبا على الأرجح في الطريق نفسه، أو على الأقل بالطموح نفسه من وجهة نظر نظامها السياسي ومن دون فيديل كاسترو. الفارق أن كوبا تقع على مسافة كيلومترات قليلة من الولايات المتحدة؟ تحمّل نظامُها القطيعةَ الأميركيةَ أكثر من نصف قرن، فكم سيتحمّل العناقَ الأميركي؟
*نقلا عن النهار
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة