بابا الفاتيكان كان قد دعا في الثامن من ديسمبر عام 2015 إلى تخصيص وتكريس عام كامل ينتهي في العشرين من نوفمبر الحالي للتأمل في الرحمة
وسط عالم بات يفضل حملة أسلحة القساوة والتزمت، ويرفض دواء الرحمة، شهدت حاضرة الفاتيكان أوائل الشهر الحالي لقاء تاريخيا جمع أبرز القيادات الدينية من مختلف أنحاء العالم، لتعميق المبنى والمعنى وتبادل المعرفة الإيجابية حول مفهوم الرحمة لدى الأديان، وفي الثقافات المتنوعة.
اللقاء المشار إليه جاء بالتعاون بين مركز الملك عبدالله العالمي للحوار «كايسيد» والمجلس البابوي للحوار بين أتباع الأديان، وقد شارك فيه قيادات دينية مسلمة ومسيحية، ويهودية وغيرها من المعتقدات.
والمعروف أن بابا الفاتيكان الحالي فرانسيس كان قد دعا في الثامن من ديسمبر عام 2015 إلى تخصيص وتكريس عام كامل ينتهي في العشرين من نوفمبر الحالي للتأمل في الرحمة، انطلاقًا من أنها «القلب النابض للمسيحية الحقيقية، لا مسيحية الحروب والكراهية والعداوات»، حسب قوله.
ذهب الأسقف ميغيل أيوسو، سكرتير المجمع البابوي للحوار بين أتباع الأديان في كلمته، إلى أن الجميع يملك القدرة على جعل الإيمان فعالاً من خلال الأعمال الخيرية، كما أكد «أننا نجد في كل ديانة وفي كل مجتمع حول العالم أشخاصًا مثاليين أصبحوا قدوة في تجسيد مبدأ الرحمة بين أتباع الأديان من خلال حياتهم وأعمالهم».
جاء اللقاء في أوقات عالمية يسودها القلق والخوف والتوتر من صعود القوميات، وازدياد موجة الراديكاليات وعلوها، وجميعها شوفينيات وعصبيات، تبني جدرانًا ولا تقيم جسورًا، تتمحور حول الذات بتجبر وتكبر، وتسحق وتمحق الآخر، لا سيما الضعيف والفقير، وليس سرًا أن عقلية هذا العصر الحاضر تبدو ربما أشدّ رفضًا لرحمة الله من عقلية الأجيال السالفة، لا بل إنها تسعى إلى القضاء على فكرة الرحمة واستئصالها من قلب الإنسان.
في كلمته خلال اللقاء، أشار الأمين العام لمركز الملك عبدالله العالمي للحوار، فيصل بن عبدالرحمن بن معمر إلى أن البشر منذ أقدم العصور أدركوا أن الرحمة قيمة تتجاوز العدل وتتسامى عن القوانين، لأن الرحمة في جوهرها تعد من أبرز القيم التي تعزز إنسانية الإنسان وقيمته الروحية السامية.
اللقاء كان فرصة جيدة من جديد لتبيان وجه الإسلام السمح والصحيح والبعيد عن العنف الدموي، الذي لا تنفك «الإسلاموفوبيا» البغيضة تعمل على إلصاقه بكل ما هو ومن هو إسلامي.
لهذا السبب أكد فيصل بن معمر أن الرحمة أساس عميق في الإسلام، وأن الكلمة عينها تكررت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة باعتبارها جزءًا أساسًا من الدين الحنيف والسنة النبوية الشريفة، وأن رحمة الله وسعت كل شيء.
أي سر إذن وراء نمو الخصامات وقساوة القلوب التي تعيشها البشرية في العقود الأخيرة؟
بحسب الأمين العام لـ«كايسيد»، المرد الرئيسي هو تخلي نظم العالم الحديث في علاقاتها القانونية والأخلاقية، لاسيما في بعض أوجه العلاقات الدولية، عن الالتزام بهدي القيم الأخلاقية للأديان، وفصل تلك القيم عن أي قوة للإلزام والتطبيق في المواثيق الدولية، ونتيجة لهذا المسار الذي سارت عليه البشرية اليوم، بعيدًا عن قيمة مفهوم الرحمة كونها شرطًا ضروريًا للحياة الإنسانية، أفضى واقع العالم إلى ما نراه اليوم من حال البشرية وما تعاني منه من مآسٍ.
هل العالم حقًا في حاجة إلى مزيد من الرحمة اليوم؟ وعلى عاتق من تقع مسؤولية تنبيه الناس ودق الأجراس؟
تبقى الرحمة هي الشريعة الأساسية الإنسانية التي تقيم في قلب كل شخص، عندما ينظر بعينين صادقتين إلى الآخر الذي يلتقيه في مسيرة الحياة، إنها الخطوة الأولى على طريق السلام العالمي، والدرجة الأولى للارتقاء الإنساني عبر سلم المصافحة والمصالحة.
أما المسؤولية، كما يشير إليها رجل «كايسيد» الساعي لتعزيز دور المؤسسة حول العالم حوارًا وسلامًا، لقاء واتفاقًا، فتقع على عاتق كل القيادات الدينية اليوم من خلال السعي الدؤوب لتأسيس قناعة قوية لدى الأوساط كافة بإعادة الفهم الإنساني الصحيح لمفهوم الرحمة بوصفها قيمة إنسانية ستظل البشرية في حاجة إليها اليوم قبل أي شيء آخر.
عبر متابعة أعمال اللقاء، يخلص المراقب إلى أن هناك شوقًا كبيرًا لدى الجميع تجاه الرحمة التي تمليها علينا محبتنا للإنسان ولجميع ما هو إنساني، وهو في اعتقاد كثيرين من مفكرين ومثقفين معاصرين معرض لخطر كبير، ولهذا كان التصميم على ألا تبقى الرحمة مفهومًا مجردًا، وإنما تجسيد للمعنى في سلوك أولئك الذين يمثلون الخير والسلام حول العالم.
يمكن لأتباع الأديان الإبراهيمية، وحتى للسائرين على دروب النواميس والشرائع الوضعية، اكتشاف الرحمة عبر أفعال متجسدة، عندما نلبس العاري، ونستقبل الغريب، نعتني بالمريض ونزور المسجون، ندفن الميت ونواسي الحزين.
وهناك من أفعال الرحمة الروحية كثير، ففي زمن تتقلص فيه مساحات الإيمان وتتعاظم قيم الإلحاد المغشوشة، يمكننا أن ننصح المتشككين، ونرد التائهين في دروب العولمة المتوحشة.
تؤكد «كايسيد» في جميع فعالياتها ومشاركاتها، لاسيما في أوروبا التي تعاني من المد الديني اليميني، ومن الراديكالية المقتربة من الإقصاء والانعزالية، أن الإسلام دين حوار منفتح على الآخر بمودة، وأنه يحمل في طياته رحمة للعالمين، وأن الحوار يبقى هو القضية وهو الحل في حاضرات أيامنا من أجل السلام والمصالحة.
*نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة