ما شهدته كوبا من انهيار صحة الرئيس وتعثره الدائم في الاحتفالات كانت تنبئ عن حالة تدهور صحته وليس العكس.
كان الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي يراقب يوميًا الصياد العجوز سانتياغو، وهو يبحر كل يوم إلى البعيد في مياه الكاريبي وفي المساء يعود خائبًا، ولكنه ظل يردد لابد وان أعود ذات يوم بصيد ثمين، ولم يكن خاطئًا في حدسه فقد علقت صنارته، واكتشف أنها سمكة كبيرة فعاش فرحًا وهو يسحبها، وفجأة عندما اقتربت فرت نافرة بقوة وأخذت تسحبه بعيدًا هو وقاربه ولم تجد مقاومته العنيدة، ثم عاد بهدوء وخبرة الصياد وصبره يستعيدها، فكانت مقاومة طويلة في البحر، مع سمكة المارلين وقد زادت سعادته وتذكر نبوءته، غير أن فرحه وحلمه لم يكتمل وهو يسحبها نحو الشاطئ، إذ بدأ سمك القرش ينهش بها حتى تحول البحر إلى بقع من الدم. نجح سنتياغو في إنقاذ حياته وتمسك بصيده، الذي وجده عندما بلغ الشاطئ عظام خالية.
بدت رواية العجوز والبحر تعبير عن صراع الإرادة مع الطبيعة وعناد الإنسان وكبريائه وهو أكثر تجليات وجوهر الرواية وملمحها، وهذا ما جعل همنغواي يوميًا يتحدث مع بطله الحقيقي الذي أصبح صديقه، حيث كان بيت الكاتب مواجها للبحر، وقد تحول في كوبا إلى متحف يؤمه السياح.
وفي أوائل التسعينات فتح متحفًا متخصصًا لكل أنواع المؤامرات التي تم تخطيطها من أجل اغتيال الحوت الكاريبي، والذي عجزوا عن اصطياده، وقد قاربت محاولات الاغتيال أكثر من ثلاثين محاولة، وبذلك يكون الرئيس الكوبي خلال أكثر من نصف قرن من الحكم يحظى بمحاولة اغتيال واحدة كل عام ونصف، لم يحظَ بها زعماء العالم قاطبة، وقد شاركت فيها ثلاث قوى رئيسية هي: المافيا الأمريكية التي فقدت أهم مرتكز عالمي للمخدرات والقمار وضربت مصالحها في الصميم، والثورة المضادة الكوبية في ميامي وهي عبارة عن تحالف الأثرياء الذين فقدوا ممتلكاتهم، والمافيا والعصابات الكوبية التي فقدت أهم بلد للقمار والدعارة، والجهة الثالثة هي الاف بي أي، والسي أي ايه، اللتان كانتا تهمهما الجزيرة أن لا تتحول إلى قاعدة أمامية للاتحاد السوفيتي ولا بؤرة ثورية للقارة الملتهبة، حيث شهدت الستينات نهوضًا ثوريًا، فكان تحالف الترويكا ضروريا لإسقاط النظام الجديد، عن طريق خطط عديدة، كالغزو بواسطة المجموعات المرتزقة بمساعدة الاستخبارات الأمريكية، حتى لا تبدو أنها تخرق القوانين الدولية أو من خلال خطط الاغتيال واصطياد الحوت الكاريبي – كان كاسترو مولعًا بالغطس والسباحة فوضعت خطة لقتله تحت الماء، ضمن الخطط وسيناريوهات الاغتيال خلال فترة حكمه، والتي قيل أنها بلغت 638، وهي واحدة من مخيلات العقل البوليسي الهوليودي، وتم إخراجها عام 2007 في فيلم وثائقي لمحطة بي بي سي البريطانية، وظل الكثيرون يستقونها من الموسوعات دون الاجتهاد في البحث الدقيق والخلط فيما بين فكرة وسيناريو الاغتيال وعملية الاغتيال نفسه، إذ لو قمنا بتقسيم الرقم المبالغ فيه على المدة التي قضاها كاسترو في الحكم، فان الحصيلة 13 محاولة اغتيال سنويًا وبمعدل محاولة كل شهر (موضوع يدعو للضحك أحيانًا) بينما من الموضوعي أن يتقصى الباحثون من مصادر عدة.
وهناك وثائق ومعلومات بالصور والصوت والبيانات موجودة في كوبا تحت عنوان «الوثائق الكوبية – أرشيف المعلومات الكوبية حول خطط اغتيال كاسترو – الوثيقة 0025» وقد تم إذاعة تلك الوثيقة في تلفاز هافانا في 27 نوفمبر 1993، وفيه تم عرض خطط الاغتيال التي وضعت للحوت الكوبي. ومن يرغب قراءة تلك الوثيقة بالانكليزية، فانه بالإمكان أن يجدها في Cuban information archives – or Cuban documentary on castro assassination plots.
السؤال الهام حول الحوت الكوبي السابح حتى شواطئ ميامي دون خوف أو رجفة، لماذا ظلت تخاف منه الدولة العظمى بكل جيوشها وأجهزتها وهو رجل بشعب لا يتعدى الاثني عشر مليونًا؟ لماذا ظل كاسترو كابوسًا لكل الرؤساء والدكتاتوريات في القارة؟ والسؤال الأخير كيف استطاع الحوت الكاريبي أن يعوم بين شواطئ كوبا باطمئنان؟ إن لم يكن هناك سرًا علينا الحديث حوله بمصداقية، دون السقوط في الدعاية المضادة منذ نجاح الثورة. المسألة بحاجة لنقاش جاد وهادئ دون أن نسقط في فخاخ جديدة وهرج ميديا العولمة !!. قبل عقد تمامًا احتفلت كوبا في الثالث عشر من اغسطس 2006 بعيد ميلاد زعيمها المحبوب والعتيد عن عمر يناهز الثمانين، غير أن المرض المفاجئ والخطير لم يسمح للشعب الاستمتاع بطعم الكعكة الكبيرة. وحالما تعافى «الحوت» من أثار العملية خاطب شعبه بأن عليهم ان يتفاءلوا بوضعه الصحي ولكن ينبغي عليهم الاستعداد للتطورات السلبية.
ما شهدته كوبا من انهيار صحة الرئيس وتعثره الدائم في الاحتفالات كانت تنبئ عن حالة تدهور صحته وليس العكس. وبهذا قرر كاسترو نقل صلاحيات السلطة لشقيقه راؤول وزير الدفاع والذي يصغر كاسترو بخمس سنوات. وبذلك تكون السلطة في الحزب انتقلت داخل العائلة مثلما ظلت تدور في اروقة الشيخوخة الحزبية والعمرية، ولكن للكوبيين خصوصيتهم وتقاليدهم التي من الصعب فك شفرتها بسهولة، فقد عجزت الولايات المتحدة نفسها عن فك ألغاز ذلك البيت الحزبي وأسراره الأمنية، بل وعجزت الولايات المتحدة لأكثر من ثلاثين محاولة اغتيال فاشلة في اصطياد الحوت الكاريبي.
لقد راهنت واشنطن بعد يأسها من فكرة عمليات الاغتيال ان الموت الطبيعي لابد وأن ينتزع الثوري العجوز من سدة الحكم! ويحرر شعبه من تلك الأسطورة والكاريزما اللاتينية الكبرى بعد شخصية سيمون بوليفار. لقد رسم أطفال كوبا في عيد ميلاده شجرة البلوط لزعيمهم كدلالة رمزية للصلابة ففي التقاليد الكوبية ترمز تلك الشجرة للبقاء والمقاومة طويلاً.
أعداء كثر لكاسترو سعداء لموته سياسيًا وجسديًا، بل وموت مرحلة تاريخية كاملة. إن الموت لا يميز بين الأطراف المتعادية وهو وحده من ينتشلنا ساعة ما يريد. وحدهم الكوبيون حولوا حزنهم الى غناء ورقص لاتيني بإحياء حفلة كبيرة بمناسبة عيد ميلاد الرئيس وشفائه وقد فضلوا أن تقام بالجوار من ميدان السفارة الامريكية.
هل سيظل أطفال شجرة البلاط أمناء لميراثهم وزعيمهم بعد موته؟ هل بإمكانهم حماية جزيرة الحرية والثورة من عبور رائحة العولمة والدولارات الى نوافذ بيوتهم؟ وهل بإمكان النظام أن يصمد بأطول مما راهن عليه الأعداء قبل الأصدقاء بين حدي الصمود والانهيار؟!
*نقلا عن الأيام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة