قد يبدو مدهشا أن نحتاج الى من يذكرنا الآن بهذه الأمور التى بدت بديهية لفردريك ليست قبل مائتى عام، ولطلعت حرب منذ مائة عام.
كانت فكرة موفقة تماما، تلك التى خطرت لبعض أعضاء جمعية المصريين ـ الأمريكيين، وهم يتابعون تفاقم الأزمة الاقتصادية فى مصر، يوما بعد يوم، ويتساءلون عن الطريقة التى يمكن بها أن يسهموا فى حل هذه الأزمة أو التخفيف منها.
هذه الفكرة أن يقوموا بتنظيم وتمويل مؤتمر يعقد فى القاهرة، فى ذكرى ميلاد طلعت حرب، ذلك الرجل الذى أسهم، ربما أكثر من أى مصري، فى تحقيق نهضة اقتصادية فى مصر منذ مائة عام، قام بعض هؤلاء المصريين الأمريكيين المرموقين، المهندس محمود الشاذلى الرئيس السابق للجمعية، والذى نبعت منه الفكرة، والدكتور طارق سعداوي، رئيسها الحالى والأستاذ فى جامعة نيويورك، بالاتصال بنخبة متميزة من الاقتصاديين المصريين: الدكتورة هالة السعيد، عميدة كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، والدكتور جودة عبدالخالق، الوزير الأسبق والأستاذ بنفس الكلية، والدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، لتبادل الرأى حول تنظيم المؤتمر، واختيار شخصية أكاديمية أمريكية مرموقة لدعوته إلى مصر ليدلى بدلوه فى مناقشة طريقة الخروج من هذا المأزق، وإلقاء الكلمة الرئيسية فيه.
اختار المنظمون عنوانا أو شعارا للمؤتمر، أعتبره ملائما تماما، وهو «إعادة التوازن للاقتصاد المصري»، ومن قراءة برنامج المؤتمر نفهم المقصود بالتوازن المفقود، فهو أولا التوازن بين القطاعات الاقتصادية الأساسية، وعلى الأخص رد الاعتبار لقطاعى الصناعة والزراعة، اللذين طال إهمالهما لمصلحة القطاعات الخدمية الأقل إسهاما فى تحقيق التنمية، والأكثر تعرضا لتقلبات تصعب السيطرة عليها، وهو ثانيا التوازن بين دور الدولة فى توجيه الاقتصاد إلى الوجهة المنشودة، ودور القطاع الخاص المدفوع بدافع الربح، وهو ثالثا التوازن بين الاعتماد على القوة المصرية الذاتية فى توفير التمويل اللازم للتنمية، والاعتماد على المستثمر الأجنبى والقروض والمعونات الخارجية، ناهيك بالطبع عن التوازن المطلوب بين الطبقات الاجتماعية من حيث توزيع ثمار التنمية.
كان التوقيت أيضا موفقا، إذ يأتى انعقاد المؤتمر فى موعد حلول ذكرى طلعت حرب (ولد فى 25 نوفمبر 1867)، فهذه التوازنات الأربعة التى يدعو إليها المؤتمر قريبة جدا من الأسس التى قامت عليها دعوة طلعت حرب لإنشاء بنك مصر فى 1920، الذى اعتمد على تعبئة مدخرات المصريين، واستهدف وحقق بالفعل نهضة صناعية، ورفعت شركاته (التى تحمل كل منها اسم مصر) نسبة الاكتفاء الذاتى لمصر فى استهلاك كثير من السلع الأساسية (تجاوزت 90% من الاستهلاك فى صناعات السكر والأحذية والأسمنت والصابون والأثاث والسجائر)، واستهدف أيضا الحلول محل المقرضين الأجانب، الذين كانوا يقرضون الفلاحين المصريين، بأسعار فائدة باهظة، وقد حظى البنك بدعم كبير من السياسيين المصريين والحكومات المتتالية، فضلا على دعم وحماسة الشباب الوطنى (كان طلبة الجامعات والمدارس الثانوية يروجون لبيع أسهم البنك).
كان طلعت حرب رجلا فذا من نواح عدة، ولد فى حى الجمالية بالقاهرة، وشهد فى صباه ومطلع شبابه نمو حركة مصر للمصريين، وقيام الثورة العرابية فى 1881، وأتيح له أن يتشرب ويجمع بين ثقافة وطنه، العربية والإسلامية، والثقافة الفرنسية، بدخوله مدرسة الحقوق الخديوية، التى التحق بها فى 1886، وكان من زملائه فيها الزعيمان مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان كثيرون من المصريين فى ذلك الوقت يتطلعون لفرنسا لإجبار بريطانيا على إنهاء الاحتلال، وقد فتن طلعت حرب فى وقت مبكر بأفكار وتجربة الاقتصادى الألمانى فردريك ليست (F.List) الذى قاد قبل طلعت حرب بمائة عام حملة لتصنيع ألمانيا بفرض الحماية ضد الواردات من انجلترا، التى كان اقتصاديوها يزعمون أن ألمانيا بلد خلق ليكون بلدا زراعيا، فليترك إذن الصناعة لإنجلترا، مثلما قال الانجليز عن مصر أيام طلعت حرب، وقال فردريك ليست (وكذلك طلعت حرب) إن التصنيع ليس فقط شرطا ضروريا للنهضة الاقتصادية، بل هو أيضا شرط لتحقيق نهضة ثقافية عامة، إذ إن التصنيع يولد من العادات والقيم الأخلاقية والعادات الاجتماعية ما يساعد على تحقيق نهضة ثقافية.
قد يبدو مدهشا أن نحتاج الى من يذكرنا الآن بهذه الأمور التى بدت بديهية لفردريك ليست قبل مائتى عام، ولطلعت حرب منذ مائة عام، ولكن السياسة الاقتصادية فى مصر تنكرت للأسف منذ أكثر من أربعين عاما لهذه البديهيات، فأهملت الصناعة (وكذلك الزراعة)، لحساب الخدمات والأنشطة الطفيلية، وأهملت التنمية الاقتصادية لحساب التنمية العقارية والتشييد، وساد الزعم بأن الاستثمارات الأجنبية الخاصة هى القاطرة الأساسية للنمو، ولا تنمية دونها، واستسهل اللجوء إلى القروض والمساعدات الأجنبية، وسحبت الدولة يدها من كثير من الميادين التى نشطت فيها فى الخمسينيات والستينيات، حتى فى ميدانى التعليم والصحة اللذين أخذا بخضعان أكثر فأكثر لدافع الربح، ولو على حساب التعليم والصحة، وكانت النتيجة الحتمية، ليس فقط تراخى معدل التنمية، بل وارتفاع معدل البطالة (بمجرد أن تقلصت حركة الهجرة إلى الخليج)، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، فلما تدهور الأمن والسياحة فى أعقاب ثورة 2011، وتضعضعت القدرة على الاستيراد، عجزت الصناعة والزراعة عن سد حاجات الناس الأساسية، ولجأنا الى حلول قيصرية مؤلمة، كم كنا فى غنى عنها لولا هذه الأخطاء، كان آخرها تعويم الجنيه وفقدان جزء كبير من قيمته، كان لابد إذن أن يعود التذكير ببديهيات طلعت حرب، ومن ثم عقد هذا المؤتمر.
من الاختيارات الموفقة أيضا من جانب منظمى هذا المؤتمر، اختيار الأستاذ إيريك دافيز (Eric Davis)، الأستاذ بجامعة روتجرز الأمريكية، لإلقاء المحاضرة الأساسية فيه، وللأستاذ دافيز كتاب عن طلعت حرب صدر بالإنجليزية منذ 35 عاما، ثم صدرت له ترجمة عربية فى 2009 بعنوان: «طلعت حرب وتحدى الاستعمار: دور بنك مصر فى التصنيع، 1920 ـ 1941» (ترجمة هشام سليمان عبدالغفار، مكتبة الشروق الدولية)، وأعترف بأنى لم أقرأ هذا الكتاب إلا بمناسبة عقد هذا المؤتمر، فوجدته كتابا ممتازا، تأليفا وترجمة.
إننا نتوقع من الأستاذ إيريك دافيز أن يربط الآن بين تجربة طلعت حرب فى القرن الماضي، وأزمتنا الراهنة، كما نأمل فى أن يتمكن هذا المؤتمر من إقناع متخذى القرارات الاقتصادية الأساسية، باستلهام طلعت حرب فى اتخاذ السياسات الاقتصادية الملائمة.
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة