وصفه البعض ذات مرة بأنه الباب الدوار للرئاسة الروسية، كان ذلك بعد أن لعب مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لعبة الكراسي الموسيقية حول منصب الرئاسة الروسية.
إنه الرئيس الروسي السابق، ورئيس الوزراء السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي الحالي ديمتري ميدفيديف.
يطفو ميدفيديف على سطح الأحداث الساخنة عالمياً وليس روسيا فقط، بوصفه الرجل الساعي للرد بقوة على التدخلات الأمريكية في الحرب الدائرة مع أوكرانيا، حتى لو كلف الأمر الوصول إلى نقطة اللاعودة، عند هرمجدون العتيدة.
هل يعلي ميدفيديف من سقف تصريحاته، أملاً في أن يكون رجل روسيا القوي القادم، لا سيما في ظل الكثير من الإرهاصات التي يعتبرها البعض إشارات على قرب نهاية زمن بوتين؟
يبدو ميدفيديف وكأنه على موعد مع الكرملين من جديد في المدى الزمني المنظور، ولهذا تحول من عالم اللطف والوداعة، إلى دائرة التشدد وربما التوحش، حال قدر له المضي قدماً في طريق الصراع الدائر بين نخبة السيلوفيكي الروسية.
تصف "فورين أفيرز" الأمريكية ميدفيديف في حاضرات أيامنا، بأنه يتطلع لتغطية ظهره ودعم مستقبله السياسي مع بدء الاضطرابات الداخلية التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة، وتمرد بريغوجين وجماعة فاغنر من ناحية ثانية.
تبدو تصريحات الرجل مؤخراً وكأنه سئم أو ملّ من إطالة الناتو أمد الحرب الأوكرانية، بهدف لا يخفى عن العيون، وهو نهاية نظام بوتين.
قرأ ميدفيديف بعناية تصريحات مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، التي أشار فيها إلى التأثير الهدام للحرب في أوكرانيا على قيادة بوتين، مؤكداً أن الغرب لن يترك فرصة الاستياء الروسي الداخلي من القيصر تفلت من بين أصابع يديه.
ميدفيديف هو المؤتمن من بوتين سابقاً على مقعد الرئاسة، والمقرب منه بدرجة صديق، ما يعني أنه يعتبر القبول بمخططات الغرب "خيانة بروتوسية"، إن جاز التعبير .
أوائل يوليو/تموز الجاري وعبر قناة على تطبيق "تليغرام"، نشر ميدفيديف تسجيلاً مصوراً قال فيه إنه "يمكن إنهاء أي حرب، حتى الحرب العالمية بسرعة، وذلك عن طريق من اثنين، فإما عبر اتفاقية سلام، وإما من خلال تكرار ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945، أي باستخدام الأسلحة النووية، التي راح ضحيتها في الحال 300 ألف مدني".
يكاد ميدفيديف يكون أعلى الأصوات في الداخل الروسي، لجهة التهديد باستخدام السلاح النووي، حال تعرضت روسيا لتهديدات استراتيجية حقيقية، أو شعرت بأن هناك نوايا للناتو تخل بميزان الانتباه العسكري بين الروس والأوكران.
ليس سراً أن الروس قد بدأوا طريق المعاناة من جراء نقص الأسلحة والذخائر التقليدية، وفي المقابل تنهال هذه وتلك على الجانب الأوكراني، فقد رأينا دبابات ليوبارد الألمانية، وتشالنجر البريطانية، ناهيك عن صواريخ هيمارس الأمريكية، وشادو ستورم المزعجة، ومع ذلك ظلت روسيا صامدة، ولم يكتب للهجوم الأوكراني المضاد أي نجاح حتى الساعة.
هل جاء القرار الأمريكي بإرسال القنابل العنقودية لأوكرانيا كأداة للتسريع بالمدى الزمني لسقوط بوتين، وإجباره على التراجع العسكري، ما يعني انكساره سياسياً في الداخل، ونهاية حقبة تجاوزت العقدين من الزمن، غير فيها الكثير من الطباع في الداخل، وعدل موازين أكثر في الخارج؟
اعتبرت موسكو أن قرار واشنطن نقل قنابل عنقودية لكييف دليل ضعف ويأس بعد فشل هجوم زيلينسكي الأخير، ووصفت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية قرار الإدارة الأمريكية بأنه "مظهر صارخ آخر لمسار الولايات المتحدة العدواني المناهض لروسيا، والهادف إلى إطالة أمد الصراع في أوكرانيا قدر الإمكان".
لا تعني تصريحات زاخاروفا الدبلوماسية أن الروس مطمئنون أو واثقون من الوعود الأوكرانية بشأن عدم الاستخدام العشوائي لهذه القنابل الحارقة والخارقة، التي يمكنها أن تحدث إصابات جسيمة في المواطنين المدنيين الروس .
كارثة هذه القنابل العنقودية في واقع الحال، أنها ومن خلال تجارب وحشية غير إنسانية، استخدمتها واشنطن في فيتنام حكماً، وفي العراق ظناً، وغيرهما من الأماكن سراً لا جهراً، يمكنها أن تظل غير منفجرة لفترة طويلة، لتنفجر بعد انتهاء الأعمال العدائية، وبهذا تكون واشنطن بحكم الواقع، متواطئة في تلغيم المنطقة وتتحمل المسؤولية عن مقتل المدنيين بالكامل بمن فيهم الأطفال.
اختلف ميدفيديف في رده عن زاخاروفا، فقد كتب عبر "تليغرام" يقول: "بايدن قال قبل عامين في جنيف إنه رفض تقديم ضمانات للرئيس الروسي بعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو بمعنى أنه رفض الرضوخ للروس.. بعد ذلك هرب بشكل مخجل من أفغانستان، ولإخفاء عار هروبه، دمر اقتصاد أوروبا، ومن ثم سلم مئات الأطنان من الأسلحة إلى أوكرانيا"...
ميدفيديف الناقم على بايدن، يرى أنه في نهاية المطاف ستقوم أمريكا بتسليم من يطلق عليهم في أوكرانيا "النازيين الجدد"، ما يهدد باندلاع حرب عالمية ثانية على حسب وصفه.
لم يخفِ ميدفيديف استعدادات روسيا، التي نشرت بالفعل أسلحتها النووية التكتيكية في بيلاروسيا، عطفاً على نقلها قوات "فاغنر" إلى المناطق الحدودية مع دول مثل بولندا ولاتفيا .
ميدفيديف يرى أن قنابل بايدن العنقودية، تعد استفزازاً نووياً "هرمجدونياً"، بمعنى أنه فعل كفيل بإشعال حرب نووية عالمية بأسلحة استراتيجية وليس تكتيكية فحسب.
التساؤل قبل الانصراف: "هل ميدفيديف صوت روسيا كلها في هذه الأوقات الحرجة وليس رأيه أو صوته هو فحسب؟".
غالب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما أنه يتفق والمرتكزات الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومي الروسي، التي تتيح وتبيح جميع الأدوات لحماية المواطنين والأراضي الروسية، ما يعني أن القارعة قد تكون على الأبواب، إلا ما رحم ربك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة