يمكن التأكيد على أن ما تخطط له الولايات المتحدة وإسرائيل هو بالفعل خطوات انتقالية،
تتوهم الإدارة الأمريكية الراهنة أنها قادرة على تمرير صفقة كاملة في الشرق الأوسط، وفرض سياسات الأمر الواقع عبر صفقة تبدو من جانب واحد، وفي ظل تنسيق أمريكي إسرائيلي لافت، وفي إطار مسعى أمريكي لإدخال الأطراف العربية المعنية بصورة تبدو فيها أنها تقر تسوية كاملة استثمارا لمناخ عربي مرتبك وتحركات فلسطينية في اتجاهات عدة، دونما تأثير حقيقي حتى الآن، وفي إطار الرهانات الأمريكية على تحقيق إنجاز للإدارة الأمريكية الجديدة بعد مرور عام على وجودها في الحكم.
من واقع معايشتي للصراع العربي الإسرائيلي أكاديميا ومفاوضا لسنوات طويلة أتوقف أمام عدة حقائق تجهلها تماما الإدارة الأمريكية بالفعل، منها أن الجانب الفلسطيني لن يقبل حدودا مؤقتة أو كيانا مصطنعا أو التفافا على الحقائق.
لا يعلم مخططو الصفقة الأمريكية ومن وراؤهم في بعض مراكز البحوث وبيوت الخبرة، الذين نعرفهم بالاسم، أنه لا يمكن فرض خيار نهائي على الجانب الفلسطيني وبصورة صفرية.
صحيح أن الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل جاء في توقيت بالغ الأهمية، لكن لن يكون بمقدور الإدارة الأمريكية حسم الصراع بصورته النهائية، خاصة أن الحدود التي يتحدث عنها الجانب الأمريكي عن عدم إدراك لطبيعة ما يجري سياسيا واستراتيجيا، وفي ظل تقييم غير صحيح بأن الجانب الفلسطيني قبِل بالمشهد الراهن، وسيتعامل مع واقع، فهذا تصور غير صحيح شكلا ومضمونا، وهو ما أدركه مبعوثو السلام السابقين من أمثال دينس روس ومارتن انديك وغيرهما، فالحدود المقترحة أمريكيا وإسرائيليا سوف تُرسم بالدم لمن خبر طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي ومراحل تحوله، ولن يكون الأمر مقتصرا على مساحات خلف الجدار العازل أو بجواره، فهذا ما يتصوره الأمريكيون والإسرائيليون فقط.
أذكر وفي حقبة التسعينيات، وكنت أحد المفاوضين العرب في لجان متعددة الأطراف بين العرب وإسرائيل، والتي ضمت القدس والمياه واللاجئين والاستيطان وحدود الدولة والعلاقات الاقتصادية، وقتها كان التفكير الأمريكي البدء بمرحلة انتقالية، ثم التوصل للمرحلة النهائية عبر قنوات التفاوض المشترك الذي استمر سنوات، وتجمد -كما شمل الجولان- في مراحل معينة انتهى إلى ما يعرف باسم وثيقة رابين، أما اليوم فإن اسرائيل ومن ورائها الإدارة الأمريكية لم تلم فعليا بجوهر الصراع، ولا معطياته وتتعامل معه على أنه صفقة في شراء أو بيع مؤسسة أو شركة.
ومن منطق حسابات المكسب والخسارة التي يتعامل بها مسؤولو الإدارة، وتتمثل في مبعوثي السلام جاريد كوشنر أو جيسون جرنبلات والسفير الأمريكي في إسرائيل ديفيد فريدمان، الذي يصلح أن يكون سفيرا إسرائيليا في الولايات المتحدة وليس العكس، ومن ثم فإن الرهانات الأمريكية الإسرائيلية تتمثل في أن الجانب الفلسطيني سيقبل وفقا لسياسة الأمر الواقع، وهو ما يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي دفع الإدارة الأمريكية للتعجيل بطرح الأفكار والرؤى سريعا، وفي ظل حال القطيعة الراهنة بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية، واتجاه الرئيس محمود عباس إلى الاتحاد الأوروبي كمسار فلسطيني بديل.
لماذا أكرر أن الحدود المقترحة أمريكيا وإسرائيليا في إطار ما يتردد من صفقة مطروحة ستُرسم بالدم وليس بسياسة الأمر الواقع، لأنه لن يقبل الفلسطينيون ما يطرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو؛ بضم 15% من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أو ما يقترحه الرئيس ترامب بضم 10% أو اختراع عاصمة جديدة للدولة الفلسطينية، هي بالفعل ضاحية فلسطينية ضمن ضواحي القدس، خارج إطار 6 كلم عام 1967، وإعلان دولة فلسطين منزوعة السلاح مع وجود قوة شرطة، وإقرار تعاون أمني ثنائي يشمل مصر والأردن والولايات المتحدة وأطراف أخرى مقترحة، مع وجود قوات إسرائيلية على طول نهر الأردن والجبال الوسطى من الضفة الغربية لحماية الدولتين، فيما سيبقى لإسرائيل كل الصلاحيات الأمنية الكاملة.
من واقع معايشتي للصراع العربي الإسرائيلي أكاديميا ومفاوضا لسنوات طويلة أتوقف أمام عدة حقائق تجهلها تماما الإدارة الأمريكية بالفعل، منها أن الجانب الفلسطيني لن يقبل حدودا مؤقتة أو كيانا مصطنعا أو التفافا على الحقائق، والأمر لن يكون مرتبطا بالوضع الراهن، واستمرار حالة الرفض فلسطينيا، والانفتاح على مسارات سياسية أخرى لتوسيع دائرة التفاوض، وإنما التحرك من خلال رؤية ربما لم تتبلور في الوقت الراهن، لكنها ستظل مطروحة وقائمة ولن تتوقف أمامها إسرائيل أو الولايات المتحدة، ولن تكون من خلال نقل صلاحيات أو إضافة أراض جديدة من المنطقة (ج) للدولة الفلسطينية، خاصة أن الجيل السياسي للسلطة الفلسطينية ليس مرغما على القبول بالأمر الواقع رغم ما تُسوق له أمريكيا وإسرائيليا، ومحاولة التأكيد على أن في الطرح الحالي مزايا، ومنها تخصيص ميناءي أشدود ومطار حيفا ومطار اللد للاستخدام الفلسطيني، وتكون المعابر الدولية بمشاركة فلسطينية فاعلة، وإيجاد ممر آمن بين القطاع والضفة تحت السيادة الإسرائيلية، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين من خلال دولة فلسطين.
إذن يمكن التأكيد على أن ما تخطط له الولايات المتحدة وإسرائيل هو بالفعل خطوات انتقالية، مثلما كانت الإدارات الأمريكية تطلب، خاصة مع إبقاء الحدود النهائية وقضايا المرحلة الأخيرة للاتفاق عليها بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ضمن جدول محدد ومتفق عليه، وليس الحسم النهائي.
ومن ثم فإن جوهر الطرح الأمريكي في محتواه الحقيقي حكم ذاتي لن يقبل به الجانب الفلسطيني، سواء في ظل قيادة الرئيس محمود عباس، أمد الله في عمره، أو من يخلفه، وفي ظل واقع سياسي فلسطيني وعربي ودولي مختلف، على الرغم من أن هذا التقدير قد يكون مكلفا في ظل الإجراءات الانفرادية التي تقوم بها الإدارة الأمريكية على الأرض، وتدفع الحكومة الإسرائيلية لمزيد من سياسة حرث الأرض تحت أقدام الجانب الفلسطيني، توهما أن الأمر قد حُسم وقُضي الأمر فعليا، لأنه لا أحد اعترف بحدود دولة إسرائيل بصورتها الراهنة أو المقترحة، وهو ما يطرح إشكالية الاستمرار في أي طرح، خاصة أن حسابات القوة الشاملة متغيرة وغير مستقرة وثابتة، وفي ظل نظام دولي مرتبك وإدارة أمريكية تعاني من حالة عدم إدراك حقيقي لطبيعة الصراعات الإقليمية ومخاطرها وتحدياتها على الأمن القومي الأمريكي، وهو ما حذرت من تبعاته أجهزة المعلومات الأمريكية ومؤسسات الدولة العميقة الأمريكية، التي لا يأنس إلى تقييماتها الرئيس ترامب، ويرى أنها لا تملك الرؤية الإبداعية في التعامل مع الأزمات التي تواجهها الإدارة الأمريكية، وتتطلب التعامل معها سياسيا واستراتيجيا، ومنها العمل على حل الصراع العربي الإسرائيلي بأي شكل، وتحقيق اختراق حقيقي في تبعات وتفاصيل هذا الملف، الذي عجز الرؤساء الأمريكيون عن تحقيق أي إنجاز حقيقي في التوصل إليه.
ليس رهانا على المستقبل، في التأكيد على فشل مسبق للولايات المتحدة وإسرائيل على فرض الحل على الجانب الفلسطيني، وليس رهانا على أن الحدود الجديدة والمطروحة لن تُرسم من جانب واحد أو بصورة جبرية، أو من خلال استراتيجية ما جرى في بناء ما عُرف بالجدار العازل، وإنما رهان على مقومات ومنطلقات وخبرات تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي عن قرب، مع التأكيد على أن الحدود بالفعل لن تفرض، وإنما ستُرسم بالدم إن لم يكن اليوم فغدا.. وإن لناظره قريب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة