سعى المسلمون الأوائل إلى الاستفادة من عمل وعلم المسيحيين العرب لا سيما السريان على الصعيد الفكري.
ترى ما هي أفضل كلمات يمكن للمرء أن يصف بها المسيحيين العرب في وقت عيد الفصح المجيد هذه الأيام؟
الفصح الحزين اليوم، لن يخفف من ألمه أو مراراته سوى أولئك الذين يؤمنون بأن الوطن مودات، وأن الوطن كذلك شراكة أحلام، وأن الآخر يكمل الحلم باللقاء الإنساني، طالما هو شريك في الوطن، كما كان المشهد في فجر الإسلام وحتى الساعة.
مؤلم جدا للنفس أن يكون العيد هذه السنة حزينا، لا سيما بعد ذاك الذي جرت به الأقدار في سيرلانكا، من مئات الضحايا وأكثر منهم من الجرحى، أولئك الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أرادوا الاحتفال بالعيد فكانت العبوات المفخخة في انتظارهم، والموت يطاردهم.
أفضل الرؤى والأحاجي التي يمكن اليوم الإشارة إليها، هي تلك المتعلقة بالدور الإنساني والوجداني، والشراكة الحضارية التي لعبها هؤلاء ضمن سياق نشوء وارتقاء الحضارة العربية أولا والإسلامية ثانيا.
في مؤلفه العمدة "المسيحية والحضارة الغربية"، يتناول العلامة المصري الراحل الأب الدومنيكاني الدكتور "جورج قنواتي"، والرجل الذي فتح الطريق واسعا أمام الحوار الإسلامي – المسيحي منذ ستينيات القرن الماضي، عبر دوره المشهور والمشهود في المجمع الفاتيكاني الثاني، ما كان للمسيحيين العرب قبل الإسلام بداية وفي قلب الإسلام ثانية.
يخبرنا العلامة الراحل بأن المسيحية دخلت في جنوب جزيرة العرب في فترة مبكرة، وكان سكانها من القبائل المقيمين على الهضاب العالية التي تسيطر على السواحل الشرقية والغربية للبحر الأحمر قبل أن تتجه إلى البحر الهندي، ويبين لنا بجلاء واضح أدوار شعراء وكتاب، أدباء وفلاسفة وأطباء مسيحيين عرب، لعبوا دورا في إذكاء جذوة تلك الحضارة قبل الدعوة الإسلامية بقرون.
ومع ظهور الإسلام، فإن حياة مشتركة أثناء القرنين الأولين للإسلام قد جمعت بين العرب المسلمين وأصحابهم المسيحيين، وأمسى الاقتداء ببناء الصوامع فيما يبدو أمرا ثابتا، فقد كان المتصوفة المسلمون حتى القرن التاسع يختلفون إلى النساك المسيحيين يسألونهم في العقائد والحياة الروحية، وأن عددا لا بأس به من المقالات الأولى التي وضعت في الزهد الإسلامي، تبدو نقلا لموضوعات مسيحية بشيء من التوسع والتصرف.
والشاهد أنه حين وصل المسلمون الأوائل إلى سوريا، انبهروا بآثارها التذكارية وقصورها وكنائسها وأديرتها، بتلك التقنية، وبكل العلم الذي كانت الآثار تفترضه، فوجب عليهم أن يكتسبوا تلك المعارف ويطلبوا إلى السكان أن ينقلوا إليهم معارف الحضارات الماضية.
لقد سعى المسلمون الأوائل إلى الاستفادة من عمل وعلم المسيحيين العرب لا سيما السريان على الصعيد الفكري، ففي مرحلة أولى في القرنين الثامن والتاسع، ظهر النقل الأول إلى العربية تارة من اليونانية وتارة من السريانية.
وكان النص المنقول تعاد قراءته ويقارن بالنص اليوناني الأصلي، للحصول على نقل أفضل، فازدادت اللغة الفلسفية دقة وأصبحت تقنية، لأن الذين ينقلون ويعيدون النقل كانوا أنفسهم فلاسفة. وانتهى عمل نقل التراث الهلنستي في الربع الثالث من القرن التاسع.
لم تتوقف الحضارة الإسلامية وفلاسفة الإسلام العظام عند الأخذ من المسيحيين العرب، بل في حاضنتها تتلمذ مسيحيون عرب لاحقا، ليضحوا علامات بارزة في التاريخ الفكري الإسلامي.
كان الفارابي في مرتبة العميد في العالم المعاصر، وكان بين طلابه شاب يدعى "يحيى بن عدي" (893-974)، مسيحي يعقوبي سرياني، أصغر منه بثلاثين سنة، أصبح بعد ذلك في آن واحد تلميذ أبي بشر والفارابي.
وبعد وفاة الفارابي، أصبح يحيى بن عدي أستاذ الفلسفة في العالم الإسلامي، فكانوا يلجأون إليه من جميع الجهات لحل القضايا الفلسفية، وترك لنا إنتاجا واسعا أي نحو مئة مؤلف، منها مقالة صغيرة في الرياضيات والهندسة ولقد لفت الشارح الانتباه إلى أن يحيى كان أول مَن فكر في تقسيم مساحة الأرض بطريقة معينة. ولم يستعمل الغرب هذه الطريقة إلا بعد ستة قرون على يد جاليليو.
الحديث عن المسيحيين العرب وأدوارهم ومشاركتهم في صناعة الحاضرة العربية أمر ربما يحتاج إلى قراءات معمقة وكتب خاصة بذاتها، غير أن علامة الاستفهام تتوقف بنا أمام أوقاتنا الحاضرة، وهل تغير المشهد كثيرا عن الماضي، أم أن هذه الشراكة ماضية قدما إلى الأمام رغم ضريبة الدم التي دفعها هذا الفريق من أبناء العالم العربي؟
يمكن القطع بأن هناك محطتين مثيرتين في السنوات الأخيرة؛ الأولى يمكننا أن نراها وبجلاء واضح للعيان في مصر، والأخرى في سوريا والعراق على نحو خاص.. ماذا عن ذلك؟
حين أرادت السلطات المصرية فض الاعتصامات الخاصة بجماعة الإخوان المسلمين، فيما عرف باعتصامي النهضة ورابعة، لم يجد الموتورون من تلك الجماعة الإرهابية مَن يصبون جام غضبهم على رؤوسهم سوى الأقباط، أي المسيحيين المصريين، وأحرقوا لهم أكثر من مئة كنيسة ناهيك عن المنازل والمتاجر، وعطفا على حالة الإرهاب النفسي والمعنوي التي عاشوها صغارا وكبارا.
في هذا الإطار كان من الطبيعي أن يعلو صوت هؤلاء بالصراخ إلى المجتمع الدولي، والمطالبة بتدخل أممي لحمايتهم، غير أن بابا الأقباط الأرثوذكس المصري "تواضروس الثاني"، ذهب مذهبا بعيدا جدا، مذهب يتسق والبعد الحضاري للمسيحيين العرب، وكانت تصريحاته تنم عن وعي كامل بأن المستهدف هو الوطن وليس الأقباط.
في تلك الأوقات من شهر أغسطس من عام 2013 قال الرجل إننا نعتبر الدخان الصاعد إلى السماء من جراء حرق تلك الممتلكات بخورا طيبا مرفوعا للسماء كي يحرس الله مصر من كل شر.
لم يكتفِ الرجل بذلك بل أضاف: "لا تقلقوا إن أحرقوا الكنائس سنصلي في المساجد مع إخوتنا المسلمين، وإن أحرقوا المساجد سنصلي في الشوارع معا".
وطنية بابا الأقباط الأرثوذكس امتدت إلى تعبير يدخل به تاريخ المواطنة والشراكة الحضارية، إذ أشار إلى أن "وطنا بدون كنائس، أفضل من كنائس من غير وطن ".
أما المشهد الآخر الحزين فقد كان ذاك الذي خلفه تنظيم داعش الإرهابي من قتل وهدم وتهجير وتنكيل بالمسيحيين، وللموضوعية أيضا بالمسلمين في العراق وسوريا، وإن كان الفريق الأول لقلة عددهم بات الأكثر نكبة، وجزء آخر من المأساة تعرضت له مكتبات تاريخية كانت تحوي أمهات الكتب التي قام المسيحيون العرب في صدر الدولة الإسلامية وأيام هارون الرشيد بترجمتها عن اليونانية ونقلها إلى العربية. ومع ذلك بقي هذا الفريق من السريان والكلدان؛ الأرمن والأشوريين، على وفائهم وولائهم لبلادهم قبل وبعد اندحار داعش إلى غير عودة.
الفصح الحزين اليوم لن يخفف من ألمه أو مراراته سوى أولئك الذين يؤمنون بأن الوطن مودات، وأن الوطن كذلك شراكة أحلام، وأن الآخر يكمل الحلم باللقاء الإنساني، طالما هو شريك في الوطن، كما كان المشهد في فجر الإسلام وحتى الساعة.
عساه عيد طيب مبارك على ربوعنا العربية والشرق أوسطية كافة، عيد من المحبات والسلام عيد لسر البعث لا سر الإثم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة