محمد منير.. سد الغناء أمام موجات الابتذال
تمر السنون ويتوالى جيل بعد جيل.. لكن يظل محمد منير بمثابة الرقم الصعب في عالم الطرب والعملة التي يزيدها الزمن قيمة وعذوبة .
تمر السنون ويتوالى جيل بعد جيل.. لكن يظل المطرب المصري محمد منير بمثابة الرقم الصعب في عالم الطرب، والعملة التي يزيدها الزمن قيمة كجوهرة تأبي أن يخفت بريقها، وإنما يزداد لمعانا وأصالة وعذوبة، وربما يكون الحالة الغنائية الوحيدة التي لاتحتاج لمناسبة للكتابة عنها بما في ذلك عيد ميلاده، الذي يوافق 10 أكتوبر/تشرين الأول (1954).
في مسلسل ( المغني ) الذي تم تقديمه عن حياة منير منذ عامين، وفي أحد المشاهد المميزة نتابع نفرتاري جميلة جميلات النوبة التي بني لها رمسيس معبدا ليخلدها رغم أنه تزوج 20 امرأة قبلها، يعقد المسلسل مقارنة مع الكينج الذي يحلم بدوره بالأميرة داخل المعابد لكنها دائما تهرب منه أو تصرخ في وجهه في أحلامه.. فهي مصر التي يريد تخليدها بمعبد غنائه في محرابها .
فمنير يظل ويبقى هو ذلك المغني العاشق للوطن، والثائر الذي صنع لنفسه حالة ومدرسة وطريقة في الحب والطرب، ربما تكون غير مسبوقة أو قابلة للتكرار، وهو الصوت الجنوبي الدافق.. المحتدم.. الناعم.. المحتل لكل أذن يمكن أن تقذف بها الأقدار في طريقه.. حنجرة عرفت كيف تختار لنفسها ما يخلدها فنا وتاريخا حين خلطت الجاز بالسلم الخماسي النوبي، في كلمات لا تعرف إلا مزج العشق والوطن في عطر أسطوري .
وقد جاء ارتباط منير بأشعار الصف الأول من شعراء العامية المصرية، وقواميسهم المغايرة الخالية من النبرة الرومانتيكية التي سادت منذ أواخر القرن التاسع عشر، وموسيقاه المنفصلة عن الطرب الكلاسيكي ليدعم أركان دولته العالية الأسوار والممتدة بطول أجيال وأجيال.
وهو أيضا نموذج للوحدة الموضوعية والحالة الشعورية الممتدة كأي مدرسة في الشعر أو القصة؛ حيث يغلب عليه الطابع الرومانسي المشغول بوطنية متدفقة واغتراب حزين مغلف بترحال يسكن جنباته، وثورة شامخة تسكن حنجرته واختيار كلماته وألحانه وهو ما يبدو جليّاً في المراحل الغنائية المختلفة من تجربته.
واذا كان الاغتراب يبدو في نوعية العديد من أغنياته مثل (في عنيكى غربة وغرابة.. وأنا فيكى مغرم صبابة)، (سؤال بسألك إيه آخرت الترحال)، (جاى من بلاد البعيدة لا زاد ولا مية وغربتي صاحبتي بتحوم حواليا) ، فإن الوطن والحرية بل والإنسانية جمعاء تظل شغله الشاغل (يا كل الإنسانية الدم ماهوش مية) أو (يا معلقين عالمراجيح والحبل مستورد فاخر فوق الرقاب يا معلمين أحبال قطيفة مدلدلة) و(لو بطلنا نحلم نموت لو عاندنا نقدر نفوت).
وحين يتحول عشقه للمباشرة فإنه يقول (يا مصر وإنتي الحبيبة وإنتي اغترابي وشقايا وإنتي الجراح الرهيبة وإنتي إللي عندك دوايا) أو (يا حبيبتي يا أم الدنيا يا أغلى الأوطان مين ده اللي يقدر يوصل بيكي لبر امان).
إنه النتاج الطبيعي لتلك الطفولة الوطنية التربوية حين تعرض للعقاب لأنه يغني بينما يدفع عنه الناظر في قريته (دراو) ما تعرض له بوعي وحب، بينما تتسلل أناشيد المدرسة وتحية العلم ليكرسان واحدا من أروع مشاهد مسلسل المغني الكاشف بدوره عن كيفية تشكيل هذا الوجدان المدهش .
وحين يتغزل بشوارعها وأهلها يغني (فى كل حى ولد عترة وصبية حنان.. وكلنا جيرة وعشرة وأهل وخلان)، وحين يشعر بالاطمئنان يغني (معااااااكى بضحك بصوت عالي ومش خايف وأنا عارف قلبك من الحزن مش خالي)، وحين يعلن التمرد يقول: (مش عايز أحبك مش عايز مش داخل سجنك مش جايز).
ومنير هو الوحيد الذي جعل من قلبه (مساكن شعبية) وطالب بهدم أركان العنصرية الكامنة بداخلنا حين طالب بفتح القلوب للأسمر والسمرة (ده الأسود طرحة أمسى والأبيض طلعة شمسي) و(افتح مرة ما تندمشي يا تعيش مرة يا ما تعيشي).
والحقيقة أن الوطن عند منير ليس منكفئا على بلده فقط فهو يتسع ليشمل العالم العربي والإنسانية جمعاء ،فحتى في تجربته الموسيقية ضم لفرقته مجموعة كاملة من العازفين الالمان، كما قدم حفلات عديدة في ألمانيا وهولاندا وغيرهما ، كما جاوز الحدود بمشاركته في افلام لمخرجين كبار أمثال يوسف شاهين الذي قدم معه بصوته (حدوتة مصرية) بكل محليتها وخصوصيتها بينما قدم معه (المصير) بكل عالمية التجربة وفلسفة إبن رشد واخيرا بالأغنية التي طالب فيها بتحدي الموت والدعوة للحياة (علي صوتك بالغنا) .
ومن الطبيعي أن يلخص منير تجربته في مقطع أخير يقول فيه(أنا أغانيا هي أنا اللي فيها فرحي وفيها جرحي.. أنا اللي ياما صوته كان صوته بديل للعاشقين.. وأنا اللي ياما قال في بلده كلام غزل وكلام عتاب وقبل ما يشيب عمرها بيضمها ترجع شباب).
لقد جاء منير من النوبة القديمة بأسوان، مهاجرا بعد غرق قرى النوبة تحت مياه بحيرة ناصر التي خلفها السد العالي، ولكنه أنشأ بصوته سدا جديدا قادرا على توليد مليارات الكيلووات من الشجن والعذوبة والوطنية، وليحمي الطرب من الغرق في أتون الزيف والتكرار والهبوط.