نساء المغرب يتسابقن على الحمام الشعبي.. وداعا كورونا
أمينة تقول إن نسوة الحي جميعهن سيأتين للحمام، والحكومة المغربية لم تسمح سوى بـ50% من الطاقة الاستيعابية الكاملة.. اقرأ التفاصيل عبر "العين الإخبارية".
بدت مستعجلة وهي تحمل حقيبة ملابسها على كتفها، فيما تحمل دلوين أُدخل أحدهما في الآخر، وعلى وجهها اختلط العرق بخيوط خضراء اللون لخليط سائل وضعته على شعرها.
تقف أمينة رفقة أختيها وجارتهما عند "العطّار"، وهو محل تقليدي متخصص في بيع الأعشاب والتوابل، تطلب منه الصابون البلدي وكمية من "الغاسول"، ثُم يجمعن تلابيب جلابيبهن، ويستعجلن المسير من جديد، والوجهة الحمام الشعبي للحي، فاليوم يفتح أبوابه بعد إغلاق دام ثلاثة أشهر بسبب الحجر الصحي.
موعد ثابت
"يجب أن نسرع، حتى نحصل على مكان جيّد وساخن"، تقول أمينة لرفيقاتها، مسترسلة: "نسوة الحي جميعهن سيأتين للحمام، والحكومة لم تسمح سوى بـ50 في المئة من الطاقة الاستيعابية الكاملة، إن لم تُسرعن سنضطر للاستحمام في المنطقة الباردة، أو ربما لن ندخل بالمرة".
ترد عليها أختها وهي ترفع كمامتها على أنفها، وتزيد من استعجال البقية: "لا رغبة لي في الاستحمام مُجدداً في المنزل، ثلاثة أشهر من الانتظار يجب أن لا تنتهي بخيبة أمل".
تقول أمينة لـ"العين الإخبارية" إنَّ الذهاب للحمام الشعبي نُقطة ثابتة كُل أسبوع، موضحة أنه على الرغم من توفر حمامات كهربائية أو غازية في جميع المنازل اليوم، إلا أن حمام الحي له نكهة خاصة وحلاوة تبدأ من الإعداد له بالخلطات الطبيعية للبشرة والشعر، وتستمر لساعات وسط بخار صالات الاستحمام، حيث يحلو الحديث وأحياناً الغناء.
غير بعيد عن الباب المُخصص للنساء، يوجد باب الرجال، وفي مقدمته نافذة صغيرة يُطل منها الحاج التوزاني، المُشرف على الحمام المغربي، الذي يجلس وسط كميات كبيرة من الصابون والليف الخشنة، وباقي الوسائل المستعملة في عملية الاستحمام.
يتلقى ثمن تذكرة الدخول التي لا تتجاوز دولاراً ونصف، كما يُنظم عمل "الكسالين"، وهم الأشخاص المكلفين بالتدليك وتحميم الزبائن.
"الحمام ليس مكاناً للنظافة فقط، بل هو مكان للاسترخاء وإزالة السموم العالقة بالجسد، وحتى العقل"، يقول التوزاني حاملاً إبريق الشاي لصبه في الكؤوس الثلاثة المتناثرة على الصينية المهترئة، مسترسلاً: "قديماً، لم تكن الحمامات موجودة في جميع المنازل، وحتى اليوم لا تستطيع السخانات الكهربائية أو الغازية منافسة الحمامات الشعبية".
وأوضح التوزاني لـ"العين الإخبارية" أن زيارة الحمام الشعبي في المغرب تعد نقطة ثابتة في برنامج المغاربة، منهم من يأتي كُل أسبوع، وآخرون مرتين في الشهر، بحسب انشغالات كُل شخص، مؤكداً أن فترة الذروة في الحمامات المغربية تكون خلال نهاية الأسبوع وقبل الأعياد.
ثقافة عريقة
ويوضح الباحث في الدراسات الثقافية بجامعة محمد الخامس في الرباط، الدكتور أسامة خضراوي، أنَّ الحمامات المغربية الشعبية ليست وليدة اليوم، بل هي تُراث تاريخي وثقافي يمتد لعدة قرون.
ويشير إلى أنَّ دولاً أخرى تتشارك والمغرب النمط العام نفسه للحمامات، لكن بأهمية أقل على مستوى القيمة الشعبية.
ويلفت خضراوي في تصريح لـ"العين الإخبارية"، إلى أن بعض اللغويين أرجعوا أصل عبارة "الحمام" إلى "الحَمّة" بفتح الحاء وتشديد الميم، وهي العين الحارة التي يلجأ لها الناس من أجل طلب الشفاء.
ويقول إنَّ ذلك يعكس الارتباط الوثيق للحمامات الشعبية بـ"الاسترخاء، والتدليك، وأيضاً الطهارة بمفهوها الديني الخاص، المتمثل في الغسل والوضوء، ومفهومها العام المرتبط بالنظافة والتخلص من الأوساخ".
ويؤكد أن المغاربة منذ صغرهم، وخاصة النسوة، يرتبطون بشكل كبير بهذا التقليد العريق، خصوصاً في المناسبات سواء الاجتماعية أو الدينية، متابعاً أنَّ الحمامات المنزلية مهما تطورت، لن تحل مكان الحمام التقليدي وطقوسه.
ويضيف أنَّ التقاليد المغربية ترتبط بشكل كبير بالحمام، موضحاً أنَّ المرأة قبل زواجها يجب أن تذهب إلى الحمام رفقة صديقاتها العازبات، إذ يستغرقن في تحميمها وتزيينها، كما يملأن المكان غناء ورقصاً.
ويوضح أنَّ الحمام المغربي يُعد في الثقافة الشعبية رمزاً للكرم وحسن الضيافة، إذ إنَّ الكثير من الأسر المغربية تعتبر دعوة الضيف إلى الحمام جزءاً مُهماً من طقوس إكرام الضيف والاحتفاء به، خصوصاً لدى النساء.
إذ تحتفي ربة البيت بضيفاتها من خلال إهدائهن عطراً أو ملابس منزلية، بالإضافة إلى تزيين أياديهن وأرجلهن بالحناء، بعد دعوتهن إلى حصة مطولة من الاسترخاء في حمام الحي.
ويرى أنَّ الحمام المغربي يُعد فرصة لدى الكثير من النسوة للترويح عن النفس، خصوصاً وأنّه فضاء تجتمع فيه كُل نساء الحي، وأحياناً تأتين إليه جماعات تضم الصديقات وبنات العائلة، لتمتد الجلسة من ساعتين إلى أربع أو خمس ساعات، يختلط فيها الاستحمام والعناية بالبشرة بـ"حكايا النساء ونقاشاتهن".
"كما أن الحمام المغربي ارتبط بمجموعة من المناسبات الغالية علينا"، يقول خضراوي، مشيراً إلى أن "التقاليد المغربية تقضي بدعوة المرأة النفساء في يومها السابع إلى الحمام، إذ يُحتفى بها ومولودها، وتعاملها نسوة الحي والعائلة كالملكات، في خطوة منهن لتخفيف آلام ومعاناة الولادة".
طقوس فريدة
ويتكون الحمام المغربي التقليدي من أربعة أجزاء، واحد مخصص للاستراحة وتغيير الملابس، وأيضاً شُرب كأس شاي بالنعناع، فيما تُخصص الصالات الثلاث المتداخلة فيما بينها، لمراحل الاستحمام، كُل حسب درجة الحرارة فيها، إلا أن أقصاها هي الأعلى حرارة، كما أنها تتوفر على حوض متوسط الحجم تصب فيه صنابير من المياه الحارة.
وتبدأ طقوس الاستحمام عند الرجال بخلع الملابس، والاستلقاء في الصالة الأشد حراً، حيث يُدهن "الصابون البلدي"، وهو عبارة عن عجين تختلط فيه الخُضرة بالسواد، ثم يبقى المرء مُستلقياً لفترة تتراوح ما بين 15 دقيقة إلى ساعة، بحسب قدرة تحمل الفرد.
وفي أعقاب ذلك، تأتي مرحلة إزالة الجلد الميت بواسطة قطعة ثوب خشنة تُسمى "الكيس" أو "لمحكة"، قبل أن يُنظف الجسد بالماء، ثم يُغسل مرة أخرى بالماء والصابون.
وإن كانت العملية بسيطة ولا تتعدى ساعة أو اثنتين بالنسبة للرجال، إلا أن للحمام عند النساء طقوس واستعدادات خاصة قد تمتد ليومين، وتنتهي بحصة استحمام مُدتها قد تصل إلى خمس ساعات متتالية.
وبحسب غيثة بناني، الخبيرة في التجميل، فإنه بخلاف طقوس الحمام المغربي لدى الرجل، الذي قد يقتصر فقط على الذهاب إلى الحلاق لقص شعره وتشذيب لحيته، فإن المرأة لها طقوس خاصة كثيرة تبدأ يوماً أو اثنين قبل الحمام، وتستمر حتى بعد الخروج منه.
ولفتت بناني في تصريح لـ"العين الإخبارية" إلى أنه على الرغم من كون التقاليد والعادات المرتبطة بطريقة الإعداد للحمام المغربي، قد عرفت تغييرات كثيرة على مر السنوات، إلا أنها لا زالت تحتفظ بالنمط العام نفسه، أو المحاور الأساسية إن صح التعبير.
وأوضحت أنها تتوزع على "مرحلة الإعداد وجمع الأعشاب والزيوت، ومرحلة وضعها على الشعر والجسد، ثم الاستحمام وإزالة البشرة الميتة، ثم التعطر بعد الحمام".
وبحسب بناني، تبدأ النسوة بعملية الخروج إلى السوق لاقتناء ما يلزمها من أغراض، والتي لا تتوفر إلا عند "العطار"، مُستدركة: "العطار تغيّر على مر السنوات، إذ إنه في الماضي كان شخصاً يجول بين المنازل حاملاً سلعته على ظهر حماره أو بغلته، إلا أنها ومع التطور العمراني صارت هذه التجارة تمارس في المحلات".
ولفتت إلى أن المواد التي تشتريها النسوة لإعداد خلطات الحمام، تتمثل في الحناء، ومعجون الصابون التقليدي، الذي يُسمى في الثقافة المغربية بـ"الصابون البلدي"، بالإضافة إلى مادة تسمى "الغاسول" وهي عبارة عن مادة طينية يُطلى به الجسد أو الوجه، إذ يُساهم في إزالة الخلايا الميتة، وترطيب البشرة، إذ تستعملها النسوة إما لوحدها أو مع الماء المستخرج من الورد، وأحياناً الحامض أو العسل الحر.
ومما تستعمله النسوة في الحمام المغربي، تُضيف بناني، مجموعة من الأعشاب والزيوت الطبيعية، بالإضافة إلى مادة طبيعية تسمى "لعكر الفاسي" أو ما يطلق عليه في بعض المناطق "دم الغزال"، وهو مسحوق مستخرج من أزهار شقائق النعمان، ويُساعد على ترطيب البشرة وإعطائها منظراً متورداً.
وفي أعقاب عملية التسوق التي كانت تقوم بها النسوة في الماضي بشكل جماعي، ولا زال ذلك قائماً في الكثير من الأحياء الشعبية والعتيقة في مدن المملكة، تأتي بحسب بناني، خُطوة إعداد الخلطات، موضحة أن العملية كانت دائماً تكون بشكل جماعي في السابق.
وأشارت بناني إلى أن الأسر المغربية كانت في وقت سابق تعيش بشكل جماعي، إذ تجد الأب والعم والأبناء في منزل واحد كبير.
كما كان من العيب أن يعيش الابن خارج منزل الأسرة بعد زواجه، الشيء الذي كان يجعل المنازل تضم تجمعات كبيرة للنساء، وبالتالي كان الإعداد الجماعي للحمام يُضفي نوعاً من الاحتفالية في المنزل، سواء للنساء أو حتى الأطفال بجنسيهما، إذ إن الطفل الذكر لا يُفارق والدته إلا عند سن الثالثة أو الرابعة.
ولفتت إلى أنه يتم تحضير الخلطات المخصصة للجسد، وتترك ليلة كاملة في إناء خاص بعد خلطها، فيما توضع الخلطات المخصصة للشعر، بعد صلاة الفجر مباشرة، أي خمس ساعات قبل موعد الحمام، ثم يُحزم بنوع خاص من الطرحات.
وعند الذهاب إلى الحمام، تأخذ المرأة معها ليفتين، الأولى خشنة لتقشير الخلايا الميتة، والثانية رطبة لدهن الصابون قبل الانتهاء من الاستحمام، بالإضافة إلى مشط وحجر خشن لإزالة الخلايا الميتة من أسفل القدمين، ومنحهما رونقاً وجمالاً خاصاً، تُعلق خبرة التجميل.
وتكون الخطوة الأولى، سكب الماء الساخن على الجسد، ثم دهنه كاملاً بالخلطة التي تُركت الليل كاملاً، والاستلقاء لمدة ما بين 10 و 20 دقيقة في الصالة الثالثة للحمام، وهي أشدهن حرارة.
وفي أعقاب ذلك، تأتي عملية فرك الجسد بواسطة الليفة الخشنة، والتي يُسميها المغاربة إما "خرقة" أو "محكة" أو "كيس".
وفي هذه المرحلة، إما تساعد النسوة بعضهن البعض في عملية "التلفيف"، أو يُستعان بامرأة قوية البنية مُتخصصة في التنظيف والتدليك.
بعدها، تنظف المرأة شعرها من الخلطة التي وضعتها عليه فجراً، باستعمال الشامبو، كما تُنظف جسدها من الخلايا الميتة التي تمّت إزالتها بواسطة الليفة الخشنة، قبل أن تدهنه مجدداً بالصابون، وتعيد غسل شعرها مجدداً بالشامبو وتمشيطه.
وفي المراحل الأخيرة للحمام التقليدي، تقوم المرأة بحك أسفل قدميها بواسطة الصابون التقليدي وحجر خشن، ليتم غسل الجسد كاملاً ومن جديد بالصابون، لكن يتم استعمال الصابون المُعطر في هذه المرة، ثُم يُصب على الجسد ماء بارد بغرض إنعاشه وخفض درجتة حرارته استعداداً للخروج، وتفادياً لأي نزلة برد مُحتملة.
ولا تنتهي عملية الاستحمام عند الخروج من قاعات الاغتسال، بل تنطلق طقوس أخرى، تقول خبيرة التجميل، إذ تقوم المرأة بدهن جسدها كاملاً بكريم مُرطب أو بعض الخلطات التقليدية المرطبة، بالإضافة إلى رش العطر على جميع مناطق الجسد، أو استعمال البخور المتميز برائحته الطيبة، بعد تجفيف الجسد، ولف الشعر في طرحة خاصة يُسميها المغاربة "زيف حياتي"، ويتراوح ثمنها ما بين دولارين ودولارين ونصف.
وعند العودة إلى المنزل، تقوم المرأة بتسريح شعرها إما لوحدها أو عبر زيارة صالونات التجميل، وأيضاً تقوم بصبغ أظافرها والاعتناء بهم هناك، في حين كانت النسوة سابقاً تُنظمن حفلات حناء لتزيين أقدامهن وأياديهن، تؤكد غيثة بناني.
aXA6IDMuMTM5LjcyLjE1MiA= جزيرة ام اند امز