"ديوان الأمومة".. بصمات ملائكية على وجه قصيدة أم
"العين" تستعرض في يوم احتفال العالم بعيد الأم عددا من نصوص وشهادات الشاعرات والكاتبات العربيات المشاركات في إصدار "ديوان الأمومة".
طالما سادت صورة نمطية للشعراء وهم يمارسون طقس الكتابة.. تتخيلهم يحلّقون في الفضاء.. وهم يستمعون لصوت وحي بعيد، ويتتبعون آثار الفراشات وهم يدوَنون على الورق نبوءاتهم للعالم، قبل أن يعتلوا منصات الشعر، وسط تصفيق حاد من المريدين..
ربما ترتبك تلك الصورة إذا تصوّرت أن ثمة شاعرة تنهض لتدوين سطر من قصيدة مُلحة، فتسبقها صرخة رضيعها في شهوره الأولى فتجهض القصيدة، أو وهي تبتسم بشغف لمسودة قصيدة جديدة مكتملة فتلطخها أصابع صغيرها بالحلوى..
لم تتخيل تلك الشاعرات يوما أن مطاردات صغارهن تلك منذ كانوا أجنة في بطونهن ستُخلّق داخلهن جينات جديدة من الصخب والإلهام، تلك التي حرّضت الشاعرة رنا التونسي أن تُمسك بطرف خيطها داعية شاعرات من العالم العربي لمشاركتها المشروع بتدوين شهاداتهن عن الأمومة في عمل مشترك، وبالفعل تحقق الحلم وخرج على هيئة "ديوان الأمومة" صادرا عن دار "ميريت للنشر" القاهرية، واحتفلن به في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب.
"العين" تختار في يوم احتفال العالم بعيد الأم عددا من نصوص وشهادات الشاعرات المشاركات في "ديوان الأمومة".
1- نص للشاعرة المصرية "رنا التونسي" :
كل يوم .. أحبك أكثر
عندما ولدتك
لم تكن لحظة الميلاد معجزة
كنتُ ذليلة
مكسورة
غارقة فى الألم
كان الغرباء يسكنون عظامي
وكنت أحبك
محبة الناجية من الموت
المستيقظة لتعشق
كل يوم كأنه أول أول
2- نص للشاعرة المصرية عزة حسين:
أنا الفتاة اليتيمة التي أصبح لديها ولد
عندما جاء طفلي اﻷول، كنت ميتة لم أزل؛ واندهشت أن تقدر مثلي على منح الحياة. تجربة عكرتها خبرة الفقد، وقصائد الرثاء. كان ”علي" متعبا جدا، وكنت مرهقة كجثة.
منذ اللحظة اﻷولى عرفت أنه حياة في الاتجاه الضد لحياتي، وانتقام جسدي الذي لم أحبه؛ حوصرت بالانتكاسات البيولوجية، ومتلازماتها النفسية ورأس حربتها متلازمة الذنب التي حفزت لفترات متواصلة رغبتي في الانتحار، ﻷنني لم أكن أما طيبة كالوسادة!.
بأمومتي التي استشعرتها متأخرة، أظنه انتهى يتمي، صرت أما وابنة، أنا التي رملتني المراثي، ولضمت روحي بسرب عجائز كعدودة شائخة. والموت الذي ناديته من أعلى جبل في روحي صار خيانة وحراما على أم جديدة، حرام حتى أنني استبدلته بحياة جديدة قررت إهداءها لطفل ثان، كهدية لطفلي اﻷول، الذي أردت له النجاة من أمراض الطفل الوحيد، التي عددها "موراكامي" في روايته "جنوب الحدود غرب الشمس".
لكن الطفل الذي انتصر وجوده للتو وانسحقت لأجله أنانيتي، لن يظل طفلا، سيصير ربما القارئ الأصعب، القارئ الوحيد الذي أخشاه، هذا القريب كظل، سيصير عبئا على الكاتب وعلى الكتابة.
3- نص للشاعرة اللبنانية سمر دياب
إلى مارسيل
أمك متهمة بالجنون والهلوسة والعبث والنشاز والشعر .. لا تصدق شيئاً من هذا
قد لا أعيش طويلاً لأخبرك أني محض دم مغرور يحب هذه البلاد، ولم يفلح أحد بعد بجعلى أخرج من البيت من دون كجلى ولا بمضاجعته بعينين نظيفتين
أحب هذه البلاد .. ولست مجنونة ولست مهلوسة ولست نشازا ولست شاعرة .. أحبها كما أحبك هكذا ،بكل غريزة الوحوش.
4- نص للشاعرة المصرية مروة أبوضيف
سارقات الوقت
ولكن ما هي الأمومة يا سارة ؟
لكزة فى الروح لتفيق من نوبة تأمل طويلة
أم صفعة على الوجه بعد سنوات من اللامبالاة والطمأنينة الزائفة
مهارات غير ضرورية نتعملها على مضض
كأن نغير الحفاضات للصمت
ونضطر إلى كراهية الليل بسبب نوبات الصراخ
نصير قراصنة الوقت بجدارة
نسرق دقائق للنوم أو للبكاء .
5- الشاعرة الليبية سميرة البوزيدي
قصائدي وأصابع أطفالي الملطخة بالشيكولا
الأمومة أعطت تلك اللذعة الواقعية للنص، لتجعله أكثر حرارة واقترابا من القارئ، أطفالي تجدين أصابعهم الملطخة بالشوكلا على وجه القصيدة، وألعابهم منثورة في فضاء النص، تجدين فرحتي بهم وقلقي وخوفي من الحرب عليهم، تجدين غضبي منهم وقلة حيلتي إزاء شقاوتهم، كلماتهم، أفعالهم، كتبهم، يعني احتلال كامل ههههههه. في الحقيقة اختلف نصي من قبل مجيئهم، من الحمل وفترة الوحم والتخلق داخلي، ثمة شيء لابد أن يؤثر و لا يمر عبثا.
الأمومة سراج بزيت لا ينفذ، عالم الطفولة قادر بشكل دائم على بعث الدهشة، وتلك ما يحبها الشعر؛ فالشعر الذي لا يدهش يتوقف عن كونه شعرا، وتجربة الأمومة بالنسبة لي كانت عتبة مختلفة تختلف عن غيرها من التجارب، تعمق الشعر وتمنحه أجنحة من طفولة؛ ليطير قريبا وعاليا، أيضا أطفالي يحبون الشعر، ويلقونه بالسليقة؛ فالأب شاعر أيضا، ولهذا كان من المحتم ربما أن تتسرب هذه الجينات إليهم.
يدهشونني دائما بتعابير حلوة لا يقولها الأطفال في سنهم عادة، الجميل في الأمر كله معرفتهم لعناوين كتبنا؛ فيتسابقون في حفظها أيضا، و يفتحون هذه الكتب في محاولة منهم لقراءة قصائدنا.
6- نص للشاعرة الفلسطينية رجاء غانم
الكائن الذى يتمدد فى بطني
ساعات الولادة الطويلة لم تكن وحدها وسيلة لمراقبة هذا الجسد، كيف يخرج من وظائفه، وشكله المعتاد اليومي، كانت فترة الحمل كلها درسا مُبهمًا، قاسيا، وحنونا في فهم كيف يتمدد جسدي الأنثوي، ويكبر، وينتفخ وكيف يتحول إلى كتلة ضخمة تمتلئ بالماء، بالسوائل، وبكائن صغير لا يتردد أحيانًا في رفس هذا الجدار المعتم الذي يغلّفه.
كانت لديّ بالطبع أفكار رومانسية حول الأمومة والأطفال، والوجوه الزهرية اللون، التي تلتفّ بالأبيض الثلجيّ. لا تعطينا ثقافتنا العربية أية علامات أخرى للأمومة وعلاقة الأم بطفلها سوى هذه الرومانسية والتقديس، وأدوار التضحية والقدرة على الاحتمال ونكران الذات.
ولا يذكر أحد أمامكِ أنكِ قد ترغبين في بعض الأوقات برمي هذا الطفل الجديد من البلكون مثلا، أو أنك قد تفضلين أنت تنفيذ قفزة حرة عن ذات البلكون.
كان دور الأم معقدًا للغاية بالنسبة لي؛ لأنني عنيدة، وأريد أن أخوض تجربتي المميزة عن كل تجارب البشر. لا أريد أن أقلّد أو أسمع أحدًا، وفي النهاية استمعت للجميع، وجربت كل وصفات الينسون والشومر التي تطرد الغازات من بطن "ناي"، تلك الغازات التي كانت تجعلها تتلوى أمامي، وتتألم، وأنا ووالدها نسهر الليل بطوله، لا نعرف ما الحل معها؟
بعد سنوات طويلة وأمومة لابنتين، أستطيع أن أقول إن ثمن الأمومة في مجتمعنا العربي باهظ للغاية، خاصة لمن أصبن بشغف الكتابة ولوثتها.
ثمن الأمومة قاسٍ وهائل، كثمن الحب والجنس والزواج والانفصال والعلاقات العابرة وغير العابرة والزمالة وكل شيء، كامرأة عليك دفع ثمن غالٍ في كل مرة تتوقعين فيها العيش بسعادة ورضا، أو أن تقرري أن تعيشي الحياة وفق رؤيتك للحياة.
7- نص للشاعرة اللبنانية رنيم طاهر
أحلامى تنام فى جيوب أطفالي
الحبَل بجنين يبدو بالنسبة لي أسهل من الحبَل بقصيدة، إنجاب طفل أسهل من خلق كلمات مصابة بمتلازمة داون.. تحتاج خيوطا هائلة لترميم الصدع بين النجمة ونعل الحذاء، الولادة ستبقى الصدمة الحقيقيّة التي تترتّب عليها جميع الحماقات الأخرى على حدّ رأي سيوران في كتابه "مثالب الولادة". الشعر يصيبنا بالوحام فنكره المطابخ، ورفوف الخزائن المرتّبة، والألوان المتناسقة... حتّى الحياة نتخيّلها فاكهة بغير موسمها.
كتبت ابنتي "حنين" في سنّ مبكرة:
" الثلج قطع طحين على رفوف النجوم "
شعرت في تلك اللحظات أنّني أمّها حقًّا، وأنّه لا يمكنني التغاضي عن ذلك... أن ألد شاعرة حادّة الأفكار.. تحيط بها شياطين الشعر من جميع الجهات ليس صدفة... مزاجها ساديّ حقًّا، ونظراتها تنحت الأشياء.. ليس بإمكان حنين أن تبني عالمها دون أن تقطن بيت العنكبوت لتمزّقه في الوقت المناسب.
"لمى" تشبه ألعابها.. ترسم الوقت بأغنيات بسيطة.. فراشة تهتمّ بالموضة والرقص بحذائين برّاقين على دفترها المدرسيّ..
علاقتي بابنتيّ ليست تقليديّة، فيها من البوح والصداقة ما يكفي... أخبّئ غالبًا هفواتي في جيوبهم الصغيرة، أرتعش من طراوة أحلامهما القريبة من الدمى، من خيالاتهم المجرّدة كالجنة... حنين تقرأ قصائدي من حين لآخر، وهذا جزء من الصداقة التي أصبحت غرفة جاهزة للعبث، بيتي تسنده القصائد من جهاته الأربع… أحيانًا أخشى انهيار السقف...أو أن تثمر شجرة الميلاد، أخشى أن تحصل أمورًا غريبة دون معجزات تُذكر.
8- الشاعرة السورية مرام المصري
أنا الأم الجريحة التي مازالت تكتب
أهديت نفسي لطفلي الأول، بحملٍ صعب لمدة تسعة أشهر، منهم ثلاثة، كنت خلالها مستلقية على سرير بارد في مشفى فرنسي، حيث لم أكن أفهم اللغة.
رأسي للأسفل وساقاي للأعلى. ممنوع أن تلمس قدماي الأرض أو أن أذهب للتواليت. وحيدة دون أصدقاء وبدون أهل.
تشققت أكواعي لخشونة الأغطية وضمرت عضلاتي لعدم الحركة، إذ كنت مهددة بالولادة المسبقة، التي إذا حصلت، سيولد الطفل لا محالة ميتا، لأنه غير كامل.
إلا أن الأمومة لم تجعل مني فيما بعد، عاقلة ورزينة وخاضعة. بل ظل قلبي متعطشا للحب وللحرية. فتطلقت محتفظة بابني الذي كنت أرى به وطني البعيد وأهلي، ولكن مرة أخرى خُطف مني، عقابا على خروجي عن الطاعة الاجتماعية وتوقي للحب.
أصبحت الأمومة عندي حلما..حققته بطفلين آخرين دون نسيان طعم الحرمان من الطفل الأول.
في كل كتبي -عدا أنذرتك بحمامة بيضاء- أمومتي الجريحة موجودة، وتتضح أكثر وأكثر مع كل كتاب، إلى أن قررت نشر قصائدي التي كتبتها عن ابني، عقب خطفه مني وحرماني من حضانته..
الفكرة المؤلمة، التي أخذتني إلى أبعد من ذلك، ولأكتب عن هذا الخطف المستمر.
ومع كل ذلك لا أدري إلى الآن إذا كان أولادي يعاملونني كأم، فلطالما لم أعرف استعمال أية سلطة عليهم.. لكني.. أحببتهم ما استطعت، مقتنعة دوما أنهم ليسوا لي.