"انفصام" يتصدر الإيرادات.. نهاية واحدة وعدة قراءات
المخرج الأمريكي من أصل هندي "شيا مالان" أثار ضجة كبيرة عند خروج فيلمه "الحاسة السادسة" 1999 مع بروس ويلز.
المخرج الأمريكي من أصل هندي "شيا مالان" أثار ضجة كبيرة عند خروج فيلمه "الحاسة السادسة" 1999 مع بروس ويلز، حيث نال ترشيح لجوائز الأوسكار كأحسن مخرج، ولمع فيلمه في عالم الإيرادات.
وتتالت أعماله بعد ذلك مع العديد من الأفلام في ظل وجود نجوم كبار من نجوم هوليوود، مثال بروس ويلز، مارك ويلبرج، ميل جيبسون، لكن أفلامه كلها تقريبا كانت تعتمد على حكايات العوالم الخفية، أرواح وأشباح، كائنات فضائية، ظواهر خارقة لا تفسير لها.
وبالتالي كان يصنف على أنه صانع أفلام جيدة لقاطني الضواحي الأمريكية، ممن يذهبون للسينما محملين بأطنان من الفيشار، يبلعونها بجالونات من المشروبات الغازية، هؤلاء من لم يجدوا أماكن لهم في صالات عرض أفلام الأبطال الخارقين، فيقنعوا بسينما الغيبيات والظواهر الخارقة، وهو يمتلك مهارة كبيرة في السرد السينمائي (يكتب سيناريوهات أفلامه)، تمكنه من السيطرة على المشاهد حتى نهاية الفيلم، الذي كان في الكثير من الأحيان يحوي في نهايته (في معظم أعماله) نقطة انقلاب، توضح لنا مسار ما سبق، الذي شاهدناه منذ البداية، أو تقلب موازين ما تلقيناه من أحداث طوال العرض، وقد لقبه البعض بهيتشكوك سينما الخوارق للطبيعة.
لكن هذا لا يمنع أن هناك أفلام له تحتمل قراءتين، واحدة نابعة من السرد الفيلمي ومواقف الشخصيات وردود أفعالها داخل البناء الدرامي، وقراءة أخرى لها علاقة بالواقع والتاريخ وأحداثه. لكن للأسف أن هذا لا يتوفر إلا نادراً في أفلامه التي يكتبها بنفسه، لعل من أهمها فيلم The Village 2002، والذي يتحدث عن مجموعة من البشر تعيش حياة القرون الوسطى داخل قرية، يفصلها عن العالم المتمدين غابة شاسعة، يمنع الدخول فيها تحت دعوى أن ذلك سيدفع الوحش القاطن بها لمهاجمة القرية. أو فيلم Phénomènes 2008، والذي نرى من خلاله ظاهرة انتحار الأفراد في الولايات المتحدة الأمريكية بدون سبب معروف، لنكتشف بعد ذلك أن الأشجار والنباتات تبث رياح مسمومة تدفع السكان للجنون والأقدام على الانتحار، في إشارة لعملية الانتحار التي تقوم بها البشرية عبر الإضرار بالبيئة وانتشار عمليات التصحير، وتغيرات المناخ.
لكن (شيامالان) يدخل بنا أفق جديد مع تحفته ( Split) أو انفصام، هذا الفيلم الذي تبوء صادرة الإيرادات في الولايات المتحدة لأسابيع عديدة. الفيلم يدخلنا لعالم المرض النفسي، وبالتحديد لمرضى تعدد الشخصيات، حيث نلتقي من "كيفن" (الممثل الرائع جيمس ماكافوي) الذي يعاني من مرض تعدد الشخصيات، فهو بداخله 23 شخصية، تتصارع داخله من أجل أن تتصدر كل شخصية المشهد وتسيطر على الشخصيات الأخرى. يعالج "كيفن" لدى الطبيبة "فليتشر"، (بيتي بكلي)، التي تحاول في كل لقاء معه أن تعرف من هي الشخصية التي تتصدر المشهد وتسيطر على الشخصيات الأخرى، وذلك لأنها تتوجس خيفة من سيطرة الشخصية الشريرة عليه، والتي قد تدفعه لارتكاب جرائم عنف، ولكنه يتمرس في الخداع ويحاول إقناعها في كل مرة بأن الشخصيات المسالمة هي المسيطرة.
يظهر لنا الفيلم 3 من تلك الشخصيات فقط، في أداء رائع من (جيمس ماكافوي) في التحول بين كل شخصية وأخرى، أحدهم شخصية امرأة، في إشارة للجانب الأنثوي الذي تحتويه بعض الشخصيات الذكورية، وشخصية طفل صغير، وهو الطفل الموجود داخلنا كلنا، ثم شخصية الشخص المتآمر، الذي يخطط لخطف فتاتين من الفتيات المرفهات بنات الطبقات الغنية، وينجح في ذلك، ولكن بالصدفة تكون معهم فتاة مختلفة عنهم، زميلة لهم في المدرسة، ساقتها الظروف أن تكون معهم في السيارة، لكي يوصلوها لمنزلها.
يخطف "كيفن" الثلاث فتيات ويخبئهم في قبو مجهز، في انتظار قدوم الوحش، الشخصية رقم 24 من شخصياته، وهي الشخصية الرابعة التي سيظهرها الفيلم.
نكتشف عن أن كيفن عاني في طفولته من هروب الأب، وتعذيب الأم له، وكانت تلك بداية الخلل النفسي لديه. تأتي شخصية الوحش التي تتقمص روح كيفن وتقوم بقتل طبيبته المعالجة، وفتاتين، وعند إقدامه على قتل الفتاة الثالثة يكتشف أثار تعذيب على جسدها، لأنها شهدت طفولة كارثية، حيث كان يعتدى عليها من قبل الوصي عليها من بعد وفاة ولدها، ليتركها حية لأنها من نفس الفئة التي ينتمي إليها فئة المعذبين المهانين.
قدم إلينا "شيامالان" من خلال "انفصام"، وعبر سيناريو شديد الدقة، مع مراعاة لكل التفاصيل حتى الصغيرة منها، بنى بها خيوط عنكبوت ابتلعت المشاهدين للنهاية، صورة بانورامية للإنسان المعاصر.
ذلك الإنسان الذي تحيط به الأزمات والقلق، والتي تجعله في كل لحظة بخرج من داخله شخصية تواءم الظروف المحيطة به، والتي في بعض الأحيان تكون شخصية شريرة تؤذي الآخرين لتدافع عن نفسها، أو حتى لمجرد الانتقام مما تعانيه من عذابات، تحت شعار الشر للشر، أو لن يكون هناك سعداء وأنا تعيس.
وقد جسد هذا المفهوم بقوة في نهاية الفيلم عندما كشف لنا عن أن القبو الذي كان يخبئ فيه البنات المخطوفات ليس سوى قبو في أسفل حديقة للحيوان، وتم تعريفنا بذلك من خلال استعراض أقفاص وحظائر الحيوانات الشرسة من أسود ونمور وضباع، في أشاره إلى ما تحول إليه العالم المعاصر من غابة يأكل فيها القوي الضعيف.
لكن هناك قراءة موازية للفيلم تحيلنا إلى عالم المستضعفين والمعذبين والمضطهدين في الأرض، والذين ينظر إليهم، وكأنهم حشرات يتم إبادتهم، ولكنهم في لحظة ما يتحولوا إلي قوة مدمرة تطحن كل من حولها، تدمر كل من لم يعاني معانتها، وتضامن مع أمثلها، (تعاطف كيفن مع الفتاة التي عذبت في طفولتها)، ومهما تصور العالم السوي أنه انتصر على هؤلاء وأمثالهم يعودون من جديد، لاستمرار شعورهم بالنقم والغبن.
ووضح ذلك من هروب "كيفن" بالرغم إصابته بطلقات نارية، ووقوفه أمام المرآه معلناً أن الرصاص لم يخترقه وأنه سيعود من جديد. من هؤلاء هل هم المهمشون؟ هل هم أبناء الجنوب ضد أبناء الشمال؟ هل كان هذا رمز للإرهاب؟ لا نعلم، فقد ترك لنا الفيلم الباب مفتوح للعديد من القراءات.
aXA6IDMuMTkuMzEuNzMg جزيرة ام اند امز