
زياد،أكتب إليك يا صديقي بعد أن صرت غياباً، وبعد أن تركت بيروت مثقلة بصمتك.. زياد، يامن حملتَ موسيقى العالم في قلب أنهكه الخيبات،كيف نواسي من كان عزاؤه في كل ما عزانا؟
أكتب إليك لا لأسألك "كيفك إنت؟"، فالسؤال الذي كان يوماً مفتاح الكلام صار شاهداً على قطيعة أبدية، بل لأحاول أن أفهم كيف تمكنت يا صديقي أن تختصرني في قهقهة قصيرة، كنتَ دائمًا تختبئ خلف سخريتك ، كمن يضحك على جرحه لئلا يراه الآخرون ينزف. لكننا كنا نعرف، يا زياد، أن كل نكتة كنتَ تطلقها تحمل في باطنها مرارةً من طعنةٍ قديمة. ولعلّ «مربى الدلال» هي أكثر شواهدك وضوحًا.
جرحك لم يكن في تلك الحكاية وحدها، بل في الخيانة التي اخترقتك من خاصرتك. أن تكتشف أن من وهبتها عمرك قد باعتك، ليس لرجلٍ آخر فحسب، بل باعت صورة العالم التي كنتَ تحملها.
كنتَ تقول في إحدى جلساتك إن الخيانة «تسرق من الإنسان حتى صوته»، وربما لهذا صار صوتك منذ ذلك الحين مبحوحًا، يغني ولا يغني. بقيتَ تصنع موسيقى تُضحك الناس، لكن داخلك كان يعيش مأتمًا مستمرًا. كانت «مربى الدلال» مرثية لك حين أدركت أنك تعيش في زمنٍ صارت فيه الحياة حسابات تجارية.
أكتب إليك اليوم لأقول لك إننا فهمنا متأخرين أن سخريتك لم تكن عبثًا. كنتَ تصرخ فينا جميعًا: «انظروا إلى أنفسكم، كيف صار الحب بينكم مقايضة؟» لكننا ضحكنا ولم نسمع. وربما لهذا بقيتَ منكسراً، حتى في قمّة مجدك، تضحك لتخفي وجعك، وتهرب من صمتك إلى موسيقاك.
اليوم، بعد أن رحلت، نسمع «مربى الدلال» فنضحك للحظة، ثم نبكي في اللحظة نفسها. نفهم أن ضحكك كان مرًّا، وأن جرحك كان أعمق من أن يُشفى. نفهم أن أغنيةً ساخرة يمكن أن تختصر حكاية قلبٍ كامل انكسر ولم يجد من يراه.
مربى الدلال.. كوميديا الوجع
أكثر ما يعاندني يا زياد وأنا أكتب إليك هو حكايتك مع دلال، تلك التي بدأت في كواليس «ميس الريم» عام 1975، حين التقط قلبك راقصة الدبكة الشابة، لتشتعل الحكاية ثم تنطفئ على مهل. أحببتها حدّ أن لحنت لها قلبك، وسافرت خلفها إلى لندن لتستعيدها، كتبت لها رسائل مترعة بالعتاب والرجاء: «ليكي، أنا جرّبت إني أفتّش على إنسان جديد حبّو… وبعد البحث والتدقيق، ما لقيتو». ثم عدتَ بها إلى بيروت لتتزوجا عام 1979
أعرف أنّك حملت حبّك لدلال بصدق يشبه فنّك، تحدّيت الجميع لتصون هذا الحب، وظللت تتحمل وتغفر، حتى حين كانت الطعنات تأتي من يد من أحببت. وحين اكتشفت أنّ "عاصي" الذي سميته على اسم والدك ليس من دمك، لم يكن الوجع في النسب فقط، بل في انهيار الثقة، في أن ترى أقرب صديق لك وقد خانك في أعمق مكان.
أعرف أنّك عشت خمس سنوات صامتًا، كاتمًا جرحًا لا يلتئم، لأنك لم ترد أن تظلم أحدًا، حتى ذلك الطفل الذي حمل اسمك. وأعرف أنّك حين رفعت القضية لم يكن انتقامًا، بل محاولة لتستعيد نفسك، لتتنفس بحرية.
زياد، أنت لم تُهزم. كل هذا الألم لم يُنقص من عظمتك شيئًا. بل ربما جعلك أكثر صدقًا في فنّك، أكثر قربًا منّا نحن الذين وجدنا في ألحانك مرآة لأوجاعنا. أنت لم تكن ضحية الخيانة فقط، بل ضحية قلب لم يعرف إلا أن يحب بلا حساب.
تبدأ الأغنية بصوتك، تهمس بسخرية: «يطيب لي بأن هذه الواقعة وقعت، فهي إذن واقعية…»، وكأنك تعلن منذ اللحظة الأولى أن ما سنسمعه ليس خيالًا، بل جرحًا حقيقيًا تنقله إلينا مغلّفًا بالضحك. هذا هو سلاحك، يا زياد:
"مربى الدلال ربوكي
واتعذبوا فيكي يا دلال
ورحنا نكلم أبوكي
ويا ريتك كنت شفتي شو قال…"
خلف هذا المشهد الساخر تختبئ سنوات من الانكسار؛ أنت الفنان الذي لم يكن يملك سوى موسيقاه، يطرق أبواباً مغلقة ليثبت أن الحب أحق من حسابات الأب والمال. تلك السخرية لم تكن موجهة إلى دلال وحدها، بل إلى نفسك، إلى زمن خانع لم يعد يرى في الحب قيمة إلا إذا كانت مدعومة بـ"محامٍ كسيب".
أعرف يا زياد معنى خيانة حبيبة وخيانة أبوة في آن. كنت تقول: "أنا مالي ذنب، وهو كمان ماله ذنب، نحنا الاتنين ضحايا متل بعض". حتى هذه المرارة سخرت منها لاحقاً، كأن السخرية آخر أسلحتك في وجه وجع يهدد بابتلاعك.
"مربى الدلال" يا زياد صارت نشيد كل من عرف طعم الخيانة، لكنها عندك لم تكن بكاءً على الأطلال؛ كانت درساً فلسفياً في أن الخيانة أحياناً تفضح هشاشتنا أكثر مما تكشف عن خسة الآخرين.
زياد، حتى لو خذلك الحب وخانك القريب، ستبقى أنت زياد، الإنسان الذي علّمنا أن نحزن ونضحك في آن واحد، وأن نحب حتى وإن كنا نعرف أنّ الحب قد يخذلنا.
أكتب لك لأقول: نحن معك، ونحس بك، ولن تغيّرك الخيبات في عيوننا. ستبقى زياد الذي لا يشبهه أحد، الذي أضاء وجعنا وصار جزءًا من قلوبنا. لقد جعلتنا نضحك من مرارة أن نهان، وندرك أن السخرية حين تبلغ مداها تصير شكلاً آخر من البكاء.
أعرف أنك كتبت لنا "عايشة لوحدها بلاك" لتصف لنا روحك بعد أن تخلت دلال عنك: عزلة قاتمة يملؤها صوت البيانو كأنه نبض قلبك المتعب. وفي "بصراحة" واجهت نفسك قبل أن تواجهها، مردداً أن الحقيقة، مهما كانت موجعة، أرحم من الوهم.
ثم جاءت "كيفك إنت"، تلك الرسالة التي ولدت من سؤال عابر من أمك بعد قطيعة، لكنها تحولت إلى أيقونة لكل من واجه حبيباً غائباً لا يملك له جواباً. حتى كلمة "ملا إنت" التي حيرت السامعين، تركتها كما هي لأنها مثل حبك: بلا تفسير، بلا منطق، بلا ضرورة للتبرير.
كانت محقة حين تركتني
ومع كارمن لبس، لا أعرف يا زياد هل كانت حبك الثاني أم الأول الأبدي، كتبت أعذب ألحانك وأكثرها تناقضاً. خمسة عشر عاماً من المراوحة بين العاطفة والفوضى منحتنا "عندي ثقة فيك"، أغنية اعتراف بحب مطلق رغم كل ما يكسره. شعرت بك في تلك اللحظة وكأنك تكتب قصيدتنا، حين جلستَ إلى البيانو، وكارمن واقفة إلى جانبك، وهمستَ لها: هذه هديتي لكِ. بدأتَ تدندن بخفة وتغني: عندي ثقة فيك.. عندي ولع فيك.. وبيكفي شو بدك إنو يعني موت فيك. أحسست أن كل كلمة خرجت منك كانت امتدادًا لروحك، كأنك تبوح بما لا تستطيع الكلمات أن تحمله."
وفي "ولعت كتير" كنت الرجل الذي يوبخ نفسه بحدة: "عم بحكي رد عليي وبس تحكي اتطلع فيي، إذا فكرك قوي.. يا فهلوي، منك بهالقوية ولا يوماً رح تصير".
كلمات يصعب تصديق أن كاتبها رجل من الشرق، لكنك كنت ذلك المختلف الذي كبر منذ طفولته خارج القوالب الجاهزة. تصف علاقتك بكارمن بكل فوضاها، حين اعترفت بفشلك: "طوال الفترة التي عشتها معها كنت أعدها بأن كل هذا الوضع مؤقت.. وسأصلح الفوضى، لكنني لم أفعل". كنت تتهكم على الرجال – وأنت منهم – الذين يوزعون الوعود بلا اكتراث حتى لو كانت التجربة تخصك. قالت هي يوماً: «كان زياد الشخص الوحيد الذي أحببته»، واعترفتَ أنت: «كانت محقّة حين تركتني».
الحصن الأخير.. داخلك
لم تخجل يا صديقي، من الإفصاح عن إفلاسك زمن الحرب الأهلية. خضت مغامرة "ساعة وغنية" التلفزيونية فقط لتحصل على 8000 ليرة تشتري بها سيارة حلمت بها. لحنت ثمانية أغانٍ، واحد منها "ورق الأصفر شهر أيلول" الذي اعترضت عليه فيروز، فاستبدل جوزيف حرب كلماته، ليخرج في تحفته الجديدة "زعلي طول أنا وياك" عام 1981. والغريب أن الكلمات الأصلية ذهبت لاحقاً إلى فيلمون وهبة لتغنيها فيروز عام 1994.
كنت تقول لنا: "أحياناً ما بيكون المرض موجع قد ما بيكون خيانة من جسدي"، لكن من عرفوك أدركوا أن ما كان يوجعك حقاً هو خيانة الحياة نفسها: أصدقاء رحلوا، أحلام تحولت إلى رماد، ومدينة كنت تحبها رغم أنها لم تبادلك الحب.
كنت تسخر من الجميع، حتى من نفسك، كأن السخرية آخر حصونك في وجه العبث. علّمتنا أن نضحك من عمق وجعنا، وأن نستمع إلى ألحانك كطقوس عبور من خيبة إلى خيبة. كنت الصوت الذي لم تفسده الحروب الأهلية ولا الطائفية، والصوت الذي سيبقى يسألنا دوماً: «شو يعني الشعب؟ يعني يصرخ وما حدا يرد عليه؟».
تذكرة العودة للوطن
وها أنت اليوم يازياد غياب يملأ المكان. كل مقهى في الحمرا يعرف خطوك، وكل مسرح في بيروت يحتفظ بصدى ضحكتك الساخرة، وكل أغنية لك صارت مرثية لوطن بأكمله. كنت تقول: «أحيانًا ما بيكون المرض موجع بقد ما بيكون خيانة من جسدي»، لكن من عرفوك يعرفون أن التعب كان أكبر من الجسد: تعب وطن في جسد رجل، تعب تاريخ وخيبات وثورات انتهت قبل أن تبدأ.
كتبت عن الفقير والسكير، عن الموظف المهزوم والمرأة والحب والخذلان، عن وطن صار سؤالاً عالقاً. رثيت رفيقك "صبحي الجيز" بأغنية حملت اسمه، أداها خالد الهبر عام 1976، وغنتها فيروز لاحقاً. لم يُعرف إن كان صبحي شخصاً حقيقياً أم خيالاً إبداعياً، لكنه صار أيقونة للثورة على الظلم، وصوتاً للطبقة الكادحة التي آمنت بالعدل دون شعارات زائفة.
زياد، لن أقول لك وداعاً؛ فوداعك خيانة أخرى. سنترك مقعدك في مسرح المدينة خالياً، ونصغي إلى صمتك، وسنردد معك كلما مر لحن منك: "هيك الدنيا؟ إيه هيك… نحنا منعرف".
لقد علمتنا أن السخرية ليست ضعفاً بل فلسفة، وأن الفن يمكن أن يكون أصدق اعتراف بالهزيمة. تركت لنا "مربى الدلال" كأعمق مرآة لروحك؛ لتضحك علينا وعليك، وتركت لنا "بلا ولا شي" لتعلمنا معنى النجاة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTg5IA== جزيرة ام اند امز