وصل استغلالُ بعض تلك الأطراف للهمِ الفلسطيني حدّ الهجوم على السعودية والإمارات واتهامهما بالسعي للتطبيع مع إسرائيل
في صيف العام 2002 كنتُ على متن الخطوط الفرنسية، في رحلة متجهة من باريس إلى نواكشوط، شاءت صدفُ ترقيم مقاعد الركاب أن أجلس في المقعد الوسط، بين مُسافريْن، يتحدثان لغة غريبة على مسامعي، ويبدو من سحنتيهما أنهما أوروبيّان، ومع ما بذلتُ من جهد لمحاولة فكٍ لغز لغتهما، فقد خلصتُ إلى أنها لست بالشرقية، ولاهيّ من مشتقات اللغة اللاتينية..
أثار فيّ استغرابُ اللغة أو اللهجة المزيدَ من الفضول لأتعرف على جنسيتيْهما، وكان أن تجاذبتُ معهما، وباللغة الانجليزية، أطرافَ حديث عام، قبلَ أن أصعقَ حين علمتُ منهما أنهما دبلوماسيين إسرائيليين..
انتابني الذهول، وغشيّتني القشعريرة طيلة ما تبقى من الرحلة، فهي المرة الأولى التي أقابل فيها حامل جنسية إسرائيلية، وفكّرتُ في البحث عن مقعد آخر، لكن الطائرة كانت مكتملة الحمولة، ولم أستطع أن أخفيّ عنهما دهشتي وعدم ارتياحي لوجودي بينهما، ولم يعد يسعني غير الصمت، وأمري إلى الله.
بعد قرابة سنة من تلك الرحلة التي أزعجتني كثيراً، كنتُ في قاعة الانتظار بمطار دبي الدولي، فإذا بشاب عربي يجلس بجانبي.. تبادلنا أطراف الحديث، عرفتٌ من لهجته لدى الوهلة الأولى أنه فلسطيني، فاستلطفته وأبديتُ له الكثير من الود، كما لاحظت أيضا أنه يُبادلني نفس مشاعر الود.. جلسنا معاً لمدة ساعة من الزمن، تحدثنا فيها عن كل شيء، وتبادلنا النكت وعَلَتْ ضحكاتُنا.. وقبل نداء إقلاع طائرتي سألني: من أي بلد انتَ؟ فقلت له: دعني أختبرك بهذا السؤال، من أي بلد أنا؟ فجالت مخيلته في بلدانٍ عديدة من السعودية للصومال للسودان لليبيا.. في النهاية أقرّ بعجزه، فقلت له: أنا موريتاني، ضحك وقال: والله لقد ورد بخاطري أنك موريتاني، لكني خجلتُ من ذكرها لك خوفا من أن يزعجك ذلك أو تفهم منه أنني أحطُ من قدرك.. كتمتُ غيظي وودّعته.
لستُ وحدي في عشقي لأولى القبلتين، ولا شكّ أن القضية الفلسطينية كانت محل اتفاق بالنسبة لجميع العرب والمسلمين.
بعد ذلك بسنوات عملتُ في قناة الجزيرة القطرية، وأرغمتني طبيعة عملي كمنتج مقابلات على أن أتحدث بشكل شبه يومي مع ضيوف إسرائيليين، وذلك لإقناعهم بالظهور على الشاشة.. مع الوقت تعودتُ على إكراهات المهنة تلك، والتقيتُ بمسؤولين إسرائيليين زاروا الدوحة في مؤتمرات كنتُ مكلفاً بتغطيتها، من بينهم شمعون بيريز، وتسيبي ليفني، وحاخامات يهود وغيرهم، وأصبح الأمرُ مُتفَهماً بالنسبة لي على الأقل.
لستُ وحدي في عشقي لأولى القبلتين، ولا شكّ أن القضية الفلسطينية كانت محل اتفاق بالنسبة لجميع العرب والمسلمين، وأن الكُل ضحى من أجل هذه القضية ، التي كلفت الدول العربية تحديداً الكثير سياسياً واقتصاياً، ولاشكّ أيضاً أن الدول العربية انقسمت في التعامل مع هذه القضية، التي يُفترض أنها مقدّسة، إلى قسميْن، فهناك دولٌ تتاجر بها، جِهاراً، نهاراً، مثلها مثل إيران وتركيا اللتين تتحدثان عن "القضية الفلسطينية" في الإعلام والمناكفات السياسية فقط.
أما المحور الثاني فيتعامل معها كقضية مقدسة فعلاً، دون التباهي بذلك، ودون بهرجة أو ضجيج إعلامي، في جهدٍ غايته التخفيف من وطأة الاحتلال على الشعب الفلسطيني من جهة، وتسخير جميع الإمكانات السياسية للمساهمة في إيجاد حل يصون الحق، ويرضي جميع الأطراف.
في مقابل الطرفين العربيين، طغى التشرذم في الصف الفلسطيني نفسه، وبرزت أطراف فلسطينية متعددة ومشتتة، تحركها مصالح شخصية وأيديولوجية، بعيدة كل البعد عن لُب القضية، وعن تطلعات شعب يطمح لعيش حياة طبيعية يستمتع فيها بأرضه وبخيراتها.
اليوم للأسف، وصل استغلالُ بعض تلك الأطراف للهمِ الفلسطيني حدّ الهجوم على السعودية والإمارات واتهامهما بالسعي للتطبيع مع إسرائيل، فيما لم نسمع من قادة السعودية والإمارات غير الاستمرار في مواقفهما التقليدية الداعمة للقضية الفلسطينية، وكان آخر تلك المواقف ما بذلته دولة الإمارات العربية المتحدة من جهود، خلال الأيام الأخيرة، لثني رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مسعاه لضم أراض من الضفة الغربية.
ظهر الدعم جلياً أيضاً في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي، وفي رسائل الوزير الإماراتي أنور قرقاش، كما ظهر في المقال الذي كتبه السفير الإماراتي في واشنطن في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية بعنوان "إما الضم أو التطبيع".
هذا التحرك الإماراتي، قابله نكرانٌ للجميل من الجانب الفلسطيني، تجلى في اتهام دولة الإمارات بالتطبيع مع إسرائيل، وقد سبق ذلك هجوم مباشر على الإمارات عقبَ رفض السلطة الفلسطينية استلام شحنة مساعدات حملتها طائرة إماراتية لمساعدة الشعب الفلسطيني في مواجهة جائحة كورونا، وهو الرفضُ الذي بررته السلطة الفلسطينية بأنها لن تكون معبرا للتطبيع، بحجة كون الطائرة الإماراتية حطت في مطار تل أبيب، وكأن السلطة الفلسطينية لديها مطاراتٌ تصلح لهبوط طائرة "إيرباص".
سأتوقف قليلا عند مقال السفير العتيبة الذي يخاطب فيه الشعب الإسرائيلي مباشرة، وأتساءل: هل الشعب الإسرائيلي جميعهُ يدعم الاحتلال؟ وهل يقف قاطبةً مع جرائم الجيش الإسرائيلي؟ وهل يقف الإسرائيليون صفاً واحداً خلف نتنياهو في خططه لضم أراض من الضفة ولتوسيع المستوطنات؟
لن أقفَ عند تلك الأسئلة التي لا يُمكنُ لأي مُزايدٍ أن يجيب عليها بالنفي، لأتساءَل: هل يطمح الشعب الإسرائيلي للعلاقات مع الشعوب العربية؟ هي أسئلة واردة اليوم، بعد يأسِنا، كعرب ومسلمين، من إقناع الساسة الإسرائيليين بوجاهة قضيتنا المقدسة، طيلة أكثر من سبعة عقود من السياسة ذاتها، ومن الشعارات التي حوّلت النكبة إلى نكبات.
بصيغة أخرى، لماذا لا نخاطب الشعبَ الإسرائيلي مباشرة، ودون وساطة من نخبه السياسية التي فوتت علينا، بغطرستها ومماطلتها وتسويفها، كل حظٍ في استعادة الحق وفي سلام دائم؟
ماذا بأيدينا اليوم، إن لم نفصح عن نيتنا الحسنة تجاه الشعب الإسرائيلي، وإن لم نسع لإقناعه بمزيد من الضغط على ساسته لمنح الشعب الفلسطيني حقه غير منقوص مقابل السلام؟ لما لا نُقيمُ الحجة على الديمقراطية الإسرائيلية التي لا صوتَ يعلو فيها على صوت الشعب؟
بالعودة إلى نظرتنا للإسرائيليين، أعيد التأكيد على أننا نمقتُهم، لكن لا نعلم إن كانت هيّ نفسُ نظرة الشعب الإسرائيلي لنا.. ما أعرفه أن القرفَ الممزوج بالسخط الذي انتابني لدى لقائي للدبلوماسيّيْن الإسرائيلييْن على متن الخطوط الفرنسية هوّ نتاجُ تربيتي الأسرية والوطنية، ولا أعرف عن إسرائيل، مثلكم جميعاً، غير أنها دولة السفاحين المغتصبين لأرض فلسطين الحبيبة، وأن اليهود أبناءُ القردة والخنازير..
لا نُقيِّمُ إسرائيل على أساس أنها دولة ديمقراطية، متطورة علميا وصناعيا، ولا نتذكرُ أن اليهود عاشوا في المدينة المنورة مع أشرف الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عقد معهم معاهدات مشهورة مثل وثيقة المدينة ومعاهدة يهود خيبر.. فلماذا أصبحت تهمة التطبيع جاهزةً، ليوصَمَ بها الكل؟ حتى من أراد مساعدة الشعب الفلسطيني؟
الحقيقة المرة أن القضية الفلسطينية اليوم رهينةٌ لأربعة أعداء رئيسيين، أولهم الساسة الفلسطينيون الذين يتسابقون لبيعها، ويأخذون ثمنها من قطر وإيران وتركيا وحتى إسرائيل مما أفقد القضية ونخّاسيها زخم التعاطف العربي..
ثاني الأعداء ليس سوى المحور الذي يساند القضية إعلاميا، ويضع خنجره في بلاد الحرمين، ويعادي دولاً عربية أخرى كانت وما تزال ظهيراً للشعب الفلسطيني، وتتناوبُ على قيادة هذا المحور طهران، وأنقرة، والدوحة، أما ثالث أعداء القضية فهو تنظيم الإخوان الذي استغلها إعلامياً إلى أبعد الحدود، لكنه وعند وصوله للسلطة في مصر تراجع حتى عن انتقاد إسرائيل، بل سارعَ إلى تأكيد التزامه بمعاهدة السلام، وهو الذي اغتال الرئيس محمد أنور السادات، استنكاراً لكل بنودها.
رابعُ أعداء القضية هم المتطرفون من الساسة الإسرائيليين الذين يستغلونها لأغراض سياسية ودينية بحتة، ويتخذون منها ورقة رابحة في المواسم الانتخابية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة