لعبة أردوغان في ليبيا باتت مكشوفةً الآن بشكل فاضح، ومخططاته ترمي إلى أبعد من حدود ليبيا البرية والبحرية.
التداعيات الميدانية والسياسية على الساحة الليبية بفعل أطماع تركيا وتدخلها السافر ودورها في تأجيج الصراع الداخلي، حرّضت أقطاب المجتمع الدولي على التحرك بخطى حثيثة للعمل على تطويقها والحد من تبعاتها على الأمن والسلم الإقليمي والعالمي، كما أفصحت هذه التداعيات عن حجم الصراع ومخاطره على هذه البقعة الجغرافية من العالم.
أولى الملامح تجلى بإعلان القاهرة الداعي إلى وقف إطلاق النار والعمل للوصول إلى تسوية سياسية، وثاني الملامح برز بدخول الولايات المتحدة على مسرح السجالات الدائرة على جميع المستويات في العواصم الغربية والعالمية بعد أن التزمت طيلة فترة الأزمة موقف المتفرج والمتابع لمجريات الأحداث الليبية وحسب.
بالتوازي مع هذين الملْمحين؛ سجل منسوب القلق الأوروبي وتحديداً في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، ارتفاعاً ملحوظاً إزاء أطماع أردوغان القريبة والبعيدة في هذه الدولة العربية المقابلة للحوض الأوروبي مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تهديد استراتيجي ووجودي لبلدانهم ومصالحهم، فماهي المصالح الأمريكية الكامنة والمحركة لواشنطن كي تثب سياسياً إلى مسرح الحدث الليبي الآن؟ وهل شعرت إدارة الرئيس ترامب أن الأوروبيين غير قادرين على هندسة عملية سياسية تضع حداً للصراع الليبي؟ أم أن الولايات المتحدة باتت تشعر بخطورة احتكاك القوى الدولية في الساحة الليبية على مصالحها بعد أن برز الدور الروسي إلى العلن؟ أم إن واشنطن تخشى من تفاهمات روسية تركية على حساب مصالحها ومصالح حلفائها الأوروبيين؟
بالمقابل كيف سيكون الموقف الأوروبي: هل سيبقى جامدا بانتظار استكمال أردوغان مخططه التوسعي واحتلال ما تبقى من الأرض الليبية وتهديدهم لاحقاً؟ ماهي الخيارات المتاحة للأوروبيين كي يواجهوا أطماع أردوغان المتسلل عبر ميليشيات حكومة الوفاق ومرتزقته إلى إحدى حدائقهم الخلفية؟ وكيف يمكن تحويل إعلان القاهرة إلى خارطة طريق دولية من أجل إنقاذ ليبيا من براثن أطماع العثماني الجديد؟.
لعبة أردوغان في ليبيا باتت مكشوفةً الآن بشكل فاضح، ومخططاته ترمي إلى أبعد من حدود ليبيا البرية والبحرية.
التساكنُ التركي، بلبوسه الأردوغاني العثماني، مع أوروبا غيرُ وارد لافي ليبيا ولا في غيرها كما برهنت على ذلك جميع الأحداث منذ وصول أردوغان إلى السلطة، بل يمكن القول إن التناقض والتعارض كان السمة البارزة في علاقات الجانبين، فتركيا تحتل شمال قبرص وهي جزء من دولة أوروبية عضو في الاتحاد الأوروبي ولا يعترف باحتلالها أحدٌ في العالم، وتركيا أثقلت كاهل الأوروبيين ابتزازاً وتهديداً بقضية اللاجئين؛ نعم إن الجانبين عضوان في حلف الناتو، لكن لابد من التوقف ملياً عند حقيقة أن الأوروبيين بغالبيتهم متفقون على رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وخاضت أنقرة ولاتزال صراعاً سياسياً ودبلوماسياً مضنياً على مدار عقود من الزمن كي تحظى بقبولها داخل البيت الأوروبي إلا أنها فشلت بسبب عدم استعدادها لتلبية شروط العضوية الأوروبية وبسبب ملفها بشأن انتهاكات حقوق الإنسان ورفضها الالتزام بمعايير وقوانين الاتحاد الأوروبي.
في غير منعطف خلال مجريات الصراع الليبي تقدم الأوروبيون بمبادرات عديدة لتجنب انعكاس مخاطر الصراع الليبي عليهم، وكان آخرها عملية إيريني البحرية المعنية بمراقبة ومنع تدفق السلاح إلى ليبيا، لكنها في جميع محاولاتها لم تتمكن من الوصول إلى مبتغاها رغم الدعم الدولي لها بسبب مضي أردوغان في تنفيذ أجندته الرامية إلى إغراق ليبيا في حرب داخلية تتيح له فرصة الانقضاض على جزء من البلاد واحتلالها.
لعبة أردوغان في ليبيا باتت مكشوفةً الآن بشكل فاضح، ومخططاته ترمي إلى أبعد من حدود ليبيا البرية والبحرية، وهذا ما يفسر رفضه لإعلان القاهرة، ولكن هذا لا يعني نهاية المطاف؛ فإضافة إلى البعد الوطني الداخلي للشعب الليبي الرافض لمشروع أردوغان وحكومة السراج الإخوانية وتخاذلها ومناهضتها لمطالب الشعب الليبي، فإن مصالح الدول العربية المتاخمة لليبيا باتت في دائرة الاستهداف الأردوغاني كما مصالح الأوروبيين عموما، ما يجعل إمكانية التفاهم بين الجانبين العربي والأوروبي واردةً حيث يلتقيان عند نقطة مواجهة الخطر العثماني الجديد الذي يهدد استقرارهم وسيادتهم ومصالحهم، ولابد من العمل لتغيير موازين القوى السياسية من جانب الأوروبيين أولا بحكم الجغرافيا والمصالح الاستراتيجية مع ليبيا قبل أن يتوسع المشروع الأردوغاني من خلال حكومة السراج وميليشياتها ومرتزقة أردوغان الذي يغذي الصراع بما أتيح له من أجل تبرير احتلاله.
تجد عواصم القرار الأوروبية نفسها في مواجهة صعبة مع الواقع الناشئ في ليبيا؛ فلاهم قادرون على إدارة الظهر لتفاعلات الساحة الليبية ميدانياً وسياسياً، ولاهم تمكنوا، حتى الآن، من بلورة مبادرة موحدة برعاية دولية تسمح لهم بالعمل على وقف التوسع التركي الذي وصل إلى قبالة شواطئها ولن يتردد في الزحف إلى مكنونات البحر الأبيض المتوسط وكذلك الأرض الليبية الغنية بالنفط والموارد، لكن المزاج الدولي والمواقف المطالبة بوضع حد للصراع الليبي والانخراط في عملية سياسية تفضي إلى الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية وتصون استقلالها بدأت تتقدم على الطروحات التركية الضيقة مما يشكل رافعة للحد من تمادي أردوغان وتقزيم مشروعه بعد أن أصبح خطره داهماً على الأوروبيين أيضا.
النهج الأردوغاني التوسعي بات قائماً كما هو معروفٌ اليوم على دعائم المرتزقة والميليشيات حيث يتوهم أنه بذلك لا يكون في مواجهة أي طرف بشكل مباشر، فهو يتلطّى خلف ادعاءات زائفة بشأن التدخل هنا أو هناك، غير أن الواقع في ليبيا مختلف عن غيره بنظر المجتمع الدولي عموماً والأوروبيين بشكل خاص بعد أن تأكدوا أن التموضع التركي الأردوغاني واستقراره في ليبيا أشدُّ خطورة على مصالحهم الاستراتيجية في حال ترددوا في العمل المشترك بصيغة استباقية عبر مبادرات سياسية تتقاطع مع إعلان القاهرة ليكون سبيلاً لهم يُسقط أوراق أردوغان ويضعه في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، وينزع عنه ادعاء التفرد بالشأن الليبي، ويعيد المسألة الليبية إلى حواضنها الوطنية والعربية والدولية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة