هناك غضب، وخاصّة من خلال التظاهرات الاحتجاجية، أمام فقدان الدولة الوطنية قدرتها على العمل وإعطاء الحلول
بين وباء كورونا 2020 وطاعون بغداد 1830 وشائج كثيرة، كأنّ التاريخ يعيد نفسه مرة بشكل مأساة ومرة بشكل ملهاة. مئة وتسعون سنة مرّت كأنّها البارحة، الشيء نفسه يحدث الآن.
طاعون بغداد أصبح نوعاً من القيامة بالنسبة لسكّان بغداد، مصحوباً بالفيضان والحصار والحرب، لأنّ داود باشا الذي رفض الوصاية العثمانية على العراق، فقدَ مُلكه وجاهه وسلطته، وأُخذ أسيراً إلى إسطنبول.
ما تزال المقارنة بين وباء كورونا والطاعون ضئيلة في قياس الوفيات بعدد النفوس. فقدت بغداد ثلثي سكّانها، نتيجة الجهل وعدم اتّباع الحجر الصحّيّ بسبب الفقهاء المتعصّبين آنذاك الذين رفضوا الحجر الصحّيّ، واليوم يتكرّر السلوك ذاته، فبعض المتعصّبين يرفضون الحجر الصحّيّ إزاء وباء كورونا، فيزداد عدد المصابين يوماً بعد آخر.
للطاعون في بغداد حكاية مثيرة، فقد انتقل من تبريز في إيران عن طريق القوافل التجارية، وانتشر من مدن العراق الشمالية، ثمّ عمّ بغداد في موجة قاتلة، لا مثيل لها في التاريخ إلّا الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا.
كورونا في العراق ما يزال يدور في إطاره الخرافيّ، ولم يدخل في حيّز البحث العلميّ باعتباره وباء من الأوبئة التي أصابت البشرية.
كان داود باشا والياً معتدلاً وعلمانيّاً، فقد طلب من السفارة البريطانيّة آنذاك، وفريقها الطبّيّ أن يعملوا له خطّة لتدارك هذا الوباء، والوقوف في وجه انتشاره، وبالفعل قامت البعثة الطبّيّة البريطانيّة بإجراء تدابير صحّية منها، خطّتان أساسيّتان هما: منع دخول القوافل التجارية القادمة من تبريز، مصدر وباء الطاعون، وتطبيق مبدأ الحجر الصحّيّ، إلّا أنّ فقهاء ذلك الزمان، والمتعصّبين منهم، وما لهم من سلطة، أبطلوا هذه الإجراءات، بحجّة أنّ هذا الوباء أمر إلهيّ من السماء، ويجب عدم مقاومته، والتسليم لإرادته.
لمّا رأى القنصل البريطانيّ أن لا فائدة من الحجر الذي أقامه حول مبنى المعتمدية، اضطرّ إلى مغادرة بغداد إلى البصرة، ومعه موظّفوه، فيما هرب الوالي داوود باشا وحاشيته إلى بساتين الكاظميّة حيث الهواء النقيّ، ورغم إصابته بالطاعون إلّا أنّه بقي على قيد الحياة.
لم يتمكّن داود باشا الذي كان هو أيضاً فقيهاً ومتمرّساً في العلوم الدينيّة، من إقناع هؤلاء الفقهاء المتعصّبين بضرورة الالتزام بالحجر الصحّيّ الذي أنقذ كثيراً من الأرواح، خاصّة أنّ بغداد كانت لها أسوار، حتى الأحياء كانت مسيّجة، إلا أنّ الجهل أدّى إلى هلاك الكثير من الناس.
هذه الحالة تتكرّر الآن، فما أشبه الأمس بالبارحة. هذا التزمّت في اتّباع التعليمات الصّحّية في الحجر الصحيّ يحصل الآن، بسبب الجهل من ناحية، وعدم توفير الحكومة الظروف المعيشية اللازمة لهؤلاء الناس الذين يلتزمون الحجر الصحيّ. والحال هو عدم الوعي، وما يزال كثيرون يعتمدون على الخرافات.
داود باشا حاول التركيز على النهج العلميّ آنذاك، وكانت آراؤه صحيحة، لكن قوة الفقهاء كانت أقوى منه، لذلك تكبّدت بغداد خسائر كبيرة في الأرواح.
كورونا في العراق ما يزال يدور في إطاره الخرافيّ، ولم يدخل في حيّز البحث العلميّ باعتباره وباء من الأوبئة التي أصابت البشرية على مرّ العصور. ومن ثمّ تشافت منه البشرية، وتجاوزته، فلا يوجد وباء أو مرض يدوم إلى ما لا نهاية، وهذا هو منطق البيئة والطبيعة.
ليس الوباء عقاباً كما يحلو لبعض المتعصّبين تبريره، فللإنسان قدرته على الفعل والاختيار. وهذا ما تقوم به مجتمعاتنا المتحضّرة اليوم في الحجر الصحيّ، وتجنّب الوباء والحفاظ على الأرواح.
إنّ هيمنة التفكير الغيبيّ والخرافيّ من شأنها أن تؤسّس للجهل المقدّس في تفسير الظواهر، وهذا ما يحصل في كثير من المجتمعات.
إنّ المتعصّبين الذين روّجوا لعدم التصدّي لوباء الطاعون في بغداد سنة 1830 هم نفسهم المتعصّبون الحاليّون الذين يروّجون لعدم التصدّي لوباء كورونا في 2020. بل ذهب المتعصّبون إلى أكثر من ذلك بأنّهم يدعون أنّ المناطق المقدّسة لا يصيبها وباء كورونا.
المنهج العلميّ لا يعارض الإيمان والتقوى أبداً، وإنّ الجهل المقدّس يمنع إنتاج معرفة علميّة، وما يتمخّض عنها من تقنيات حديثة تفيد البشرية على فهم الطبيعة من أجل تسخيرها.
لعلّنا نرى الصعوبة التي يواجهها العراق في فرض احترام تدابير الحجر الصحيّ لمواجهة وباء كورونا، بعد تحدّي الكثيرين هذه التدابير، وعدم الالتزام بالحجر الصحّي، انطلاقًا من قناعتهم وأوهامهم بأنّ هذا الوباء قضاء وقدر، ولا يبالون به. وهذا ما سبّب تفشّي الوباء بشكل واسع النطاق من دون سيطرة، لأنّ الإمكانات المادّية من أجهزة ومعدّات ومستشفيات غير موجودة للسيطرة على هذا الوباء والتقليل من انتشاره. وما تزال زيارة المراقد الدينيّة مفتوحة.
ما هي العبر والدروس من الطاعون وكورونا في العراق؟
من المفروض أن يؤدّي ذلك إلى مراجعات في نهج الحياة والنقد الذاتيّ، وهذه مهمّة الكتّاب والمثقّفين في البلد. إنّ عوامل ثقافية عديدة ساهمت في ازدياد تفشّي الوباء في العراق.
يجب أن يكون هناك انفتاح أكبر على الثقافات الأخرى، ومواجهة الوباء بطرق فكريّة جديدة، ونبذ المذهبيّة والطائفيّة في معالجة القضيّة الصحّية، كذلك مراجعة النظم الصحّية التي بسبب الفساد لم تتشكّل هيكلية وبنية تحتية لها، وهذا ما جعل العلاج بطيئاً وضعيفاً.
إنّ انقسام المجتمع والتفاوت الاجتماعيّ سبب آخر من أسباب تفشّي الوباء. يجب أن تكون حياة البشر فوق المنافع الشخصية والحزبية. كما أنّ ترك فئات واسعة من العاملين بدون موارد مالية مسألة أخلاقية يجب مواجهتها. وحماية حياة أفراد الشعب لها مسؤولية أخلاقية وقانونية، وعدم التفكير بالعوائد التجارية فقط، لأنّ حياة الإنسان أهمّ من كلّ شيء في العالم.
هناك خلل كبير في نظام الصحّة في العراق، ولا بدّ من معالجته ووضع الحلول اللازمة له، وهذا من شأنه أن يخفّف الكوارث الاجتماعية الحالية والمستقبلية.
إلى أيّ درجة نفتقر إلى الضرورات التكنولوجية في حياتنا وأولها الكهرباء، فما يزال معظم الناس يعتمدون على المولّدات الأهلية الخاصّة التي تُدفع أثمانها الباهظة، إضافة إلى ما تثيره من ضجيج وفوضى. كما أنّ انعدام الإنترنت والكهرباء لا يساعد على مواجهة وباء كورونا.
إنّ عدم تقديم العلاجات العلمية لهذا الوباء من شأنه أن يرفع من رصيد القوى المتعصّبة التي تستغلّ هذا الوباء من أجل تمرير أفكارها المتطرّفة بين الفئات الفقيرة.
هناك غضب، وخاصّة من خلال التظاهرات الاحتجاجية، أمام فقدان الدولة الوطنية قدرتها على العمل وإعطاء الحلول. إنّ تهميش أعداد كبيرة من المهجرين العراقيين من شأنه أن يضعف إيمان هؤلاء بالدولة وقدراتها.
الواضح أنّ الدولة الوطنية، ذات الهوية العراقية، وليس المذهبية، هي القادرة على الخروج من أزمة كورونا وغيرها.
يجب التعامل مع التاريخ، والعودة إليه خاصّة أنّ العراق واجه الأوبئة المختلفة، ومنها طاعون بغداد في 1830، ونرى كيف أنّ الجهل أدّى إلى فقدان بغداد ثلثي سكّانها. والوباء ليس جسداً فقط بل هو روح أيضاً.
إذاً الموضوع يأخذ أوجهاً عدة: بيولوجيّ وتكنولوجيّ وسياسيّ في آن واحد، والعدوى لا تفرّق بين الهويات أو الثقافات أو الأديان.
بهذا المنطق يجب تناول الموضوع. كما أنّ نشر الخوف هو وباء آخر يصيب المجتمع، لذا يجب على الدولة أن تستعيد هيبتها من المليشيات الفالتة، وهذا جزء من الانتصار على تفشّي وباء كورونا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة