الناتو بعد أزمة أوكرانيا.. تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
خلص تحليل لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إلى أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) بات من الماضي، وذلك بسبب "الانقسامات الحادة" بين أعضائه.
وأوضح التحليل أنه فى حين يبدو أعضاء الحلف متفقين شكلا إلا أن توافقهم مشكوك فيه فيما يتعلق بالتوجهات والسياسات والرؤى.
وأشار إلى أنه قبل أقل من 3 سنوات، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريحا أثار الجدل حول الحلف حين تحدث عن "الموت الدماغي للناتو".
وكانت وجهة نظره واقعية، ففى ذلك الوقت، لم يكن هناك تفكير استراتيجي كافٍ في أوروبا، جنبًا إلى جنب مع عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الأمريكية في عهد الرئيس آنذاك دونالد ترامب.
وقبل 14 عامًا فقط، منعت هيئة تقييم التهديدات السرية للغاية التابعة للتحالف، من طرح سيناريوهات بشأن خطر عسكري روسي. ولم يأتِ الضغط فقط من أصدقاء لموسكو مثل ألمانيا ولكن أيضًا من الولايات المتحدة، التي كانت حريصة على الحفاظ على العلاقات الودية بين الشرق والغرب.
ونتيجة لذلك، ظل أعضاء الناتو الأكثر ضعفًا - بولندا ودول البلطيق؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا - حلفاء من الدرجة الثانية.
كما امتنع التحالف صراحة عن وضع خطط طوارئ لتعزيز أمن تلك الدول أو حتى الدفاع عنها في حالة الهجوم.
وطالبت بولندا بمثل هذه الخطط وقيل لها إنه يمكن وضعها للدفاع عن البلاد ضد هجوم من قبل بيلاروسيا - ولكن ليس من قبل روسيا.
زخم من الحرب الأوكرانية
لكن العملية الروسية فى أوكرانيا أعطت زخما وأهمية جديدة عاجلة لمهمة التكتل العسكري الأساسية المتمثلة في الدفاع عن أراضي دول الحلف.
ويبدو أن أعضاء الناتو توحدوا مجددا حول هدف ما وهو تزويد أوكرانيا بالأسلحة، وإعادة تقييم التهديد من روسيا، وزيادة ميزانيات الدفاع، وتعزيز أمن الحدود الشرقية للحلف.
لكن "شهر العسل"، على حد تعبير وزير الخارجية الليتواني جابريليوس لاندسبيرجيس، كان قصيرا، فمع استمرار الحرب، بدأت التوترات تظهر، وما زال التحالف مزعزعا.
ومنذ العملية الروسية في عام 2014 (حينما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم)، أصبحت خطط الناتو وعمليات الانتشار أكثر جدية.
فانتشر 1000 عسكري في دول البلطيق الثلاث وقوة أمريكية أكبر في بولندا.
ومنذ بدء المعارك في فبراير/شباط الماضي، زاد هذا الوجود بشكل واضح. علاوة على ذلك، فإن اثنتين من أكثر القوى العسكرية الأصغر تقدمًا في أوروبا، فنلندا والسويد، تدق باب التحالف.
وبافتراض إمكانية تسوية اعتراضات تركيا، يمكن أن يصبح البلدان عضوين بحلول نهاية العام. وسيؤدي ذلك إلى تغيير جذري في الجغرافيا العسكرية لشمال شرق أوروبا، بحسب المجلة.
الضعف الكامن
لكن النظر بإمعان يشير إلى حقائق أخرى تماما، فعلى الرغم من وحدة الهدف الواضحة منذ بداية العلمية الروسية في أوكرانيا، يبدو الناتو خارج هيئته المعتادة وقديم.
ففي الفترة التي سبقت قمتهم، كان الحلفاء يساومون بشدة حول قضايا لغوية في مفهومهم الاستراتيجي الجديد، والذي سيؤطر مهمة التحالف للسنوات القادمة وسيتم الكشف عنه في مدريد.
ومن بين الأسئلة المطروحة ماذا ستقول الاستراتيجية عن روسيا؟ وكذا عن الصين؟ ما التضحيات والمخاطر التي ترغب الدول الأعضاء حقًا في قبولها؟ هل هم على استعداد للتنازل عن السيادة من أجل تبسيط عملية صنع القرار؟
ولم يشر أي شيء في الأسابيع الأخيرة إلى أن هذه الأسئلة ستحصل على إجابات واضحة.
فالتحالف المؤلف من 30 عضوا صعب الاعتماد عليه. فمن الناحية العسكرية، لا يهم سوى حفنة من الأعضاء - وفى مقدمتهم الولايات المتحدة - ولكن من الناحية السياسية، حتى دول صغيرة مثل لوكسمبورج وأيسلندا لهما صوت ويجب الاستماع إليه.
والأسوأ من ذلك، أن الانقسامات السياسية هائلة. فتركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان تحتفظ بعلاقات جيدة مع روسيا وتغضب مما تعتبره تدخلاً أوروبيًا في حقوق الإنسان.
كما تتخذ المجر في عهد رئيس الوزراء فيكتور أوربان مسارًا مختلفًا وتقوض المحاولات الأمريكية والأوروبية للضغط على روسيا والصين.
كما أن مواقف الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز تخلق عقبات وضعت بالفعل علامة استفهام كبيرة حول مصداقية التحالف وتماسكه.
مواجهة مستبعدة
أما بالنسبة لسيناريو المواجهة، فمن غير المحتمل أن تقدم روسيا على تهديد أو استفزاز واضح أو مباشر، فعلى الأرجح سيكون شيئًا غامضًا عن عمد، مثل طائرة روسية بدون طيار تنطلق "بطريق الخطأ" إلى أراضي دولة في خط المواجهة وتضرب هدفًا.
وقد تفضل بعض الدول ردا قاسيا، فيما سيخشى آخرون التصعيد ويدعون للحوار. وسيعتبر البعض الآخر الغموض ذريعة مناسبة لعدم القيام بأي شيء.
عدم تكافؤ عسكري
هذا الضعف السياسي يقابله ضعف عسكري. فإلى حد بعيد الدولة الأكثر أهمية في التحالف هي الولايات المتحدة، فالضمان الأمني الأمريكي لأوروبا - مع تهديدها برد تقليدي مدمر، هو حجر الزاوية في التحالف.
لكن نتيجة ذلك هي الاعتماد الهائل على قدرات الولايات المتحدة، بدءًا من الذخيرة وقطع الغيار إلى وسائل النقل العسكرية التي تحرك القوات بسرعة وكفاءة عبر مسافات طويلة.
وحتى لو زادت قيمة خطط الإنفاق الدفاعي الجديدة في أوروبا، فإنها لن تغير حقيقة أن القوات المسلحة الأمريكية فقط هي التي يمكنها التحرك بالحجم والسرعة اللازمين.
وعلى العكس من ذلك، فإن البلدان الأكثر احتياجًا للدفاع - إستونيا ولاتفيا وليتوانيا - هي الأقل قدرة على تحمل العبء بنفسها. فهم بحاجة إلى أسلحة متطورة، خاصة للدفاع الجوي والصاروخي، ولا يمكنهم تحمل تكاليفها. فتريد كل من بولندا وليتوانيا وجودًا عسكريًا أمريكيًا كبيرًا - إما قاعدة دائمة أو تناوبًا مستمرًا للقوات - لحماية هذا الممر الاستراتيجي.
ومع ذلك، فإن هياكل القيادة والتخطيط لحلف الناتو لا يعكسان بشكل كامل اختلال توازن القوات بين الولايات المتحدة وأوروبا، ففي منطقة البلطيق وحدها، يوجد لدى حلف الناتو عدة مقار متعددة الجنسيات، ومقر رئيسي واحد مقسم بين لاتفيا والدنمارك، ومقر رئيسي آخر في بولندا، ومقر قيادة في موقع مختلف في بولندا.
وتنقسم المسؤولية العامة للدفاع عن أوروبا بين 3 مقار لقيادة القوات المشتركة في نابولي بإيطاليا؛ برونسوم، هولندا؛ ونورفولك، بفيرجينيا.
لكن القائد الأعلى للقوات الأمريكية في أوروبا، الجنرال تود وولترز، يعمل في المقر الأعلى للقوات المتحالفة في أوروبا في مونس ببلجيكا.
ولم يتم تحديد الاستراتيجية البحرية لمنطقة بحر البلطيق بعد، فالناتو لم ينشئ بعد مقرًا بحريًا للمنطقة. كما لم يضع التحالف خططًا عسكرية حقيقية لتعزيز قوة أعضائه الشماليين الشرقيين والدفاع عنهم، ناهيك عن تحديد من سيوفر القوات والمعدات بالفعل لجعلها ذات مصداقية.
معضلة التدريبات
وهناك مشكلة أخرى تتمثل في التدريبات: فلا يُجري الناتو تدريبات واقعية بالكامل وواسعة النطاق حول كيفية رده على أي هجوم روسي.
والمشكلة هي أن هذه التدريبات مكلفة. والسبب الآخر هو أنهم يكشفون عن نقاط الضعف الهائلة لدى بعض أعضاء الناتو، أما السبب الثالث هو الخوف في بعض البلدان، من أن تستفز التدريبات الكرملين.
نتيجة لذلك، لا أحد متأكد تمامًا من كيفية عمل أي شيء في أزمة. بدلاً من ذلك، يسود افتراض آخر: في حالة حدوث أزمة، ستتولى الولايات المتحدة المسؤولية وتقوم بالعبء الثقيل على جميع الجبهات - اللوجستيات، والاستخبارات، والقتال.
الأسوأ من ذلك، أن الناتو غير مستعد للطبيعة المتغيرة للحرب الحديثة. فالهجوم الروسي القديم على أوكرانيا مألوف للغاية. لكن القصف المدفعي والضربات الصاروخية التي تقوض دفاعات أوكرانيا ليست سوى جزء من ترسانة الكرملين الضخمة.
ومع أوجه القصور العسكرية لحلف الناتو، فإن تحديد المشكلات لا يعني حلها. ومن ثم قد يكون من الحكمة تقليل التوقعات بشأن عودة الناتو إلى مستويات الحرب الباردة من الجاهزية والفعالية الثابتة.
وتتمثل الرؤية الأكثر واقعية للتحالف في التعامل معه كإطار عمل للأعضاء الأكثر قدرة وإدراكًا للتهديدات لتشكيل تحالفات الراغبين.
هذه التجمعات موجودة بالفعل: قوة المشاة المشتركة بقيادة بريطانيا، على سبيل المثال، هي إطار عمل يضم 10 دول للتعاون العسكري، ويهدف بشكل رئيسي إلى تمكين عمليات نشر سريعة للغاية في منطقة الشمال والبلطيق في حالة حدوث أزمة.
وتملك فرنسا مشروعا مماثلا، مبادرة التدخل الأوروبية. ولدى دول الشمال الخمس ناد عسكري خاص بها، يطلق عليه اسم التعاون الدفاعي لدول الشمال الأوروبي، بينما تتمتع بولندا بعلاقات ثنائية وثيقة مع ليتوانيا.
وفي حين لن تحل هذه المجموعات محل الناتو، لكنها ستعمل على تحسين العمل وقابلية التشغيل البيني على رأس الهياكل والآليات الراسخة للحلف.
والسؤال الصعب والأساسي هنا هو دور الولايات المتحدة. والمفارقة هي أن مشاركة الولايات المتحدة فقط هي التي تجعل الناتو موثوقًا، ومع ذلك فإن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة يقوض أيضًا مصداقية الحل.
aXA6IDE4LjExOS4xMDYuNjYg جزيرة ام اند امز