الناتو "مكتوف الأيدي" في الحرب الأوكرانية.. ضجيج بلا طحين
لم يكن هجوم الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على حلف شمال الأطلسي "الناتو" وليد الصدفة، لكنه يعكس جوهر الأزمة الجارية مع موسكو.
وإثر رفض "الناتو" فرض منطقة حظر فوق أوكرانيا، قال الرئيس الأوكراني في تصريحات، أمس الثلاثاء، إن كييف لم تعد مهتمة بالانضمام لـ"الناتو"، الذي يخشى المواجهة مع روسيا.
كما حمل زيلينسكي، في فيديو بثه على حسابات الرئاسة على "تليجرام"، الغرب مسؤولية مقتل المدنيين لعدم تطبيقه حظرا للطيران، فيما توعد بمحاسبة المسؤولين عن قتل المدنيين أمام المحاكم الدولية.
كما اعتبر زيلينسكي، أن الغرب لم يف بـ"وعوده" إلى بلاده، في تغير كبير في الخطاب الرسمي الأوكراني الذي كان يشدد في الأيام الماضية على أهمية الدعم الخارجي، خاصة الغربي، في مواجهة العملية العسكرية الروسية.
موقف زيلينسكي وحديثه عن "الناتو" الضعيف، فتح الباب أمام إعادة فتح دور الحلف منذ بداية الأزمة الأوكرانية الروسية، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك، وفتح ملف دور التحالف العسكري في دول أوروبا الشرقية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي.
جذور الأزمة
وفي هذا الإطار، قال الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقال بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مؤخرا: "في رأيي، هناك نوعان من جذوع الأشجار الضخمة التي تغذي هذا الحريق؛ الأول هو القرار غير المدروس من قبل الولايات المتحدة في التسعينيات لتوسيع الناتو، على الرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي؛ أي تلاشي سبب تأسس الحلف من الأساس".
أما النوع الثاني؛ وفق فريدمان؛ وهو الأكبر بكثير؛ "كيفية استغلال بوتين توسع الناتو بالقرب من حدود بلاده لحشد الروس إلى جانبه؛ لتغطية الفشل الهائل في بناء نموذج اقتصادي من شأنه أن يجذب الجيران ودول الاتحاد السوفيتي السابقة، ويجذب أكثر الشخصيات موهبة عالميا".
وتابع الكاتب الأمريكي: "اللغز هو لماذا لجأت الولايات المتحدة؛ التي حلمت طوال الحرب الباردة بأن يحكم روسيا يومًا ما ثورة ديمقراطية وقائد يحاول، مهما كان مترددا، تحويلها إلى دولة ديمقراطية والانضمام إلى الغرب، إلى دفع الناتو بسرعة إلى وجه موسكو في وقت كانت الأخيرة فيه ضعيفة؟".
الصوت الوحيد في إدارة الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، الذي فتح هذا الملف، هو وزير الدفاع بيل بيري. الذي قال في مقابلة مع صحيفة "جارديان" البريطانية، في عام 2016: "في السنوات القليلة الماضية، جرى توجيه معظم اللوم إلى الإجراءات التي اتخذها بوتين، لكن يجب أن أقول إن الولايات المتحدة تستحق الكثير من اللوم".
وتابع: "كان أول فعل اتخذناه حقًا في اتجاه سيئ هو توسع الناتو، وجلب دول من أوروبا الشرقية، بعضها على حدود روسيا".
وأوضح أنه "في ذلك الوقت، كنا نعمل عن كثب مع روسيا وبدأوا في التعود على فكرة أن الناتو يمكن أن يكون صديقًا وليس عدوًا ... لكنهم كانوا غير مرتاحين جدًا لوجود الناتو مباشرة على حدودهم".
ما هو "الناتو"؟
حلف شمال الأطلسي، هو تحالف عسكري أسسته 12 دولة، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا، في عام 1949، لمواجهة الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان مسيطرا على شرق أوروبا، وأسس حلفا مضادا يعرف بحلف وارسو بعد ذلك بأعوام.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، غيّر عدد من دول حلف وارسو مواقفها، وأصبحت أعضاء في "الناتو"، الذي أصبح يضم الآن 30 عضوا.
والنقطة الرئيسية في الحرب الأوكرانية الروسية الحالية، هي أن أوكرانيا ليست ضمن أعضاء الناتو، ولا ينطبق عليها مبدأ الدفاع المشترك الذي يحكم الحلف، لكنها "شريكة" للتحالف، وكان هناك توافقا على إمكانية أن تنضم له في المستقبل، وهو ما يقلق روسيا.
وحتى قبل العملية العسكرية في أوكرانيا، كان أحد مطالب روسيا من الغرب هو أنه لا ينبغي أبدا السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى الناتو؛ وهو أمر رفض الحلف الموافقة عليه.
وتخشى روسيا من أن حلف شمال الأطلسي يتعدى على مناطق نفوذها من خلال استقطاب أعضاء جدد في أوروبا الشرقية، ومن أن قبول أوكرانيا في الحلف سيجلب قوات الناتو إلى فنائها الخلفي؛ وهو قلق قديم يعود لبداية التسعينيات وفق بيل بيري.
جورج كينان، مهندس سياسة "احتواء" الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة، قال بعد وقت قصير من تصديق مجلس الشيوخ الأمريكي على توسع الناتو في أوروبا الشرقية، في ١٩٩٨، "أعتقد أنها بداية حرب باردة جديدة. وأعتقد أن الروس سوف يتصرفون تدريجياً بشكل عكسي وسيؤثر ذلك على سياساتهم".
وتابع: "أعتقد أنه خطأ مأساوي.. لم يكن هناك سبب لهذا على الإطلاق. لم يكن أحد يهدد أي شخص آخر. هذا التوسع سيجعل الآباء المؤسسين لهذا البلد يتقلبون في قبورهم"، وفق ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز.
وأردف قائلا: "لقد وافقنا على التوسع، لحماية مجموعة كاملة من البلدان، على الرغم من أننا لا نملك الموارد ولا النية للقيام بذلك بأي طريقة جادة".
ومضى: "بالطبع سيكون هناك رد فعل سيئ من روسيا يوما ما"، وبعد ذلك سيقول "موسعو الناتو" إننا أخبرناكم دائمًا أن هذا هو حال الروس؛ لكن هذا سيكون مجرد خطأ"، في إشارة إلى أن روسيا ستكون رد فعل.
عودة إلى الحاضر
ما توقعه كينان، حدث بالفعل بعد 24 عاما، مع اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا التي ترغب في الانضمام للناتو.
لكن الحلف لم يبذل مجهودا ضخما في الدفاع عنها، واكتفى بالسماح لأعضائه بتزويدها بأسلحة؛ بعد اندلاع القتال؛ "أي كان رد الفعل متأخرا جدا"، وفق ما ذكره جوستاف جريسيل، الباحث الرئيسي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومتخصص في شؤون روسيا وشرق أوروبا، لـ"العين الإخبارية".
كما رفض الحلف بشكل قاطع فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، ما أشعل غضب زيلينسكي؛ الذي خرج بتصريحاته القوية ضد التحالف الثلاثاء الماضي، ووصفه بـ"الضعيف".
وفي هذا الإطار، قال ماسيميليانو بوكوليني؛ الخبير الإيطالي ومحلل موقع "ديكود٣٩" في إيطاليا، "يلعب الناتو، كما هو الحال دائمًا، دورًا أساسيًا في الحفاظ على السلام في العالم حتى في هذه الأزمة؛ ولهذا السبب لا يسعه إلا أن يساعد الشعب الأوكراني".
وتابع في حديث لـ"العين الإخبارية"، "في الوقت نفسه: "لا يمكن للحلف التدخل بشكل مباشر في الصراع في أوكرانيا بناءً على طلب رئيسها؛ لتجنب اندلاع الحرب العالمية الثالثة".
وأوضح أن "إنشاء منطقة حظر طيران في أوكرانيا يعني أن طائرات الناتو يجب أن تقاتل بشكل مباشر ضد القوات الروسية وهذا يعني الحرب العالمية الثالثة.. يعمل الناتو على تجنب ذلك مع ضمان أمن أوروبا".
وتابع: "الناتو يواجه لحظة صعبة مثل العالم كله لأنه يواجه خطر نشوب صراع نووي بسبب روسيا؛ ولكنه موحد للغاية من الداخل"، على حد قوله.
وعلى عكس حديث مراقبين عن تراجع دور الناتو، وإبراز الأزمة الأوكرانية ضعفه، قال الخبير الإيطالي، "أعتقد أن هذه الأزمة توضح أهمية الناتو لأنه بدون هذا التحالف كانت روسيا أو دول أخرى قد هاجمت بالفعل إحدى الدول الأوروبية (الأعضاء في الحلف) من أجل مصالحها الوطنية".
مخرج للصراع؟
جوستاف جريسيل سار في نفس اتجاه بوكوليني حول محاولة الناتو تجنب حربا عالمية ثالثة، وقال إن قرار فرض حظر طيران فوق أوكرانيا ليس سهلا، لأن الأمر يتعلق بروسيا، ولهذا يجب أن يتوخى الحلف الحذر.
لكنه تحدث عن إمكانية أن يكون حديث زيلينسكي عن عدم رغبة بلاده في الانضمام للناتو، بوابة لحل سياسي للصراع مع روسيا، في حال قررت الأخيرة أن تخفض سقف أهدافها الممثلة في السيطرة على كامل أوكرانيا، وإزاحة النظام الحالي.
وأوضح "إذا ما كانت هناك رغبة في روسيا في ترك أوكرانيا، وبدأت إدراك أنه سيكون من الصعب حكم هذا الإقليم" في ظل أنه يمثل بيئة عدائية للروس، مضيفا أن "لا اعتقد أن هذا التصور وصل إلى داخل الكرملين بعد، ولكنه بدأ يكسب أرضا خارج دائرة صنع القرار في الكرملين".
ومضى قائلا: "إذا دخل هذا التصور إلى دائرة صنع القرار في الكرملين، فإن روسيا ستبحث عن شيء تروجه على أنه مكسب الحرب".
وما قاله زيلينسكي أمس يوضح ما يمكن أن يكون هذا المكسب؛ في إشارة إلى تعهد أوكرانيا بعدم الانضمام للناتو بشكل رسمي، لكن الخبير الذي يعد الأبرز في الشأن الروسي قال إن "هذا الأمر سيتطلب تعديلات كبيرة في دستور أوكرانيا الذي ينص على سعي كييف للانضمام للحلف".
لكنه رفض التحليلات التي تتحدث عن خروج الناتو ضعيفا من الأزمة، في ظل الدعم الذي يلقاه من الدول الأوروبية.. الناتو الآن أكثر شعبية (دوله الأعضاء) أكثر من أي وقت مضى".
لكن فيما كان الخبير يتحدث لـ"العين الإخبارية"، ظهرت إشارة نادرة على الشقاق بين حلفاء الناتو، إذ رفضت وزارة الدفاع الأمريكية أمس، عرضًا غير متوقع من بولندا للحصول على مقاتلات تعود إلى الحقبة السوفيتية، من المقرر نقلها إلى أوكرانيا كنوع من الدعم في إطار حربها مع روسيا.
وقال مسؤولون أمريكيون لموقع "إن بي سي" نيوز الأمريكي، إنهم فوجئوا بإعلان بولندا، الذي يختلف عن اقتراح سابق بأن تقوم وارسو بتسليم طائرات "MiG-29" سوفيتية الصنع، إلى كييف مباشرة.
وقال المتحدث باسم البنتاجون جون كيربي في بيان "سنواصل التشاور مع بولندا وحلفائنا الآخرين في الناتو بشأن هذه القضية والتحديات اللوجستية الصعبة التي تطرحها"، مقللا من مقترح بولندا تسليم المقاتلات للولايات المتحدة، ما عكس أزمة التنسيق الداخلية داخل "الناتو".
ووفق مراقبين، فإن الأزمة الأوكرانية كشفت أزمات داخلية كبيرة في "الناتو"، منها عدم اتخاذ الحلف موقفا موحدا في إدارة الأزمة منذ البداية؛ وامتناع ألمانيا لأسابيع عن تبني موقف أغلبية الأعضاء المتمثل في دعم كييف بأسلحة دفاعية، وهو ما تغير مع انطلاق الحرب.
كما أن الحلف يعاني أزمة تنسيق ظهرت بوضوح في ملف المقاتلات البولندية، وسبل تسليم كييف هذه المقاتلات؛ وهل تمنح للأخيرة مباشرة، أم تتسلمها الولايات المتحدة، وفق المراقبين.
aXA6IDMuMTM1LjIwNi4xNjYg
جزيرة ام اند امز