السؤال المطروح هنا هو من الذي سيقدم على شراء هذه العقارات بهدف الحصول على الجنسية التركية؟
يرفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاعتراف بوجود أزمة مالية في تركيا، رغم كل المؤشرات الواضحة على ذلك ورغم اعتراف وزير المالية والخزانة براق البيرق، خلال استعراضه لخطة تركيا الاقتصادية متوسطة المدى -قبل يومين - التي أكدت دخول تركيا في ضائقة مالية وتراجع النمو بشكل كبير للسنوات الثلاث القادمة، وعليه يلجأ أردوغان إلى حلول ترقيعية من أجل تخفيف تداعيات الأزمة دون التعامل مع أسبابها الحقيقية، من هنا جاء القرار المفاجئ والغريب بتخفيض الكلفة المالية لحصول الأجانب على الجنسية التركية، ومنها شراء عقار بقيمة تتجاوز 250 ألف دولار، وهو ما يجعل الجنسية التركية من بين أسهل الجنسيات للحصول عليها مقابل الاستثمار المباشر في العالم.
يقول المحللون الاقتصاديون إن الرئيس أردوغان يهدف من هذه الخطوة إلى تحريك سوق العقار وتفادي انفجار فقاعته مع تراجع بيع العقارات وبدء تراجع أسعارها في ظل وجود نحو مليوني عقار جديد معروض للبيع ما يحدث تخمة غير مسبوقة في تركيا التي يبلغ معدل بيع العقار فيها نحو نصف مليون سنويا، لكن بعيدا عن فعالية هذه الخطوة من عدمها، وبعيدا عن آثارها على الاقتصاد، فإن لهذه الخطوة أبعادا سياسية واجتماعية خطيرة يجب الوقوف عندها.
لا نستبعد هنا أن يلجأ آلاف المعارضين العرب المدعومين ماليا من قطر الذين لجأوا إلى تركيا للحصول على الجنسية التركية عبر هذا القانون الجديد
السؤال المطروح هنا هو من الذي سيقدم على شراء هذه العقارات بهدف الحصول على الجنسية التركية؟ من المستبعد طبعا أن يلجأ الأوروبيون أو الغربيون بشكل عام إلى هذه الخطوة، فأوضاع الحريات وحقوق الإنسان في تركيا طاردة بشكل قوي لأي مواطن أوروبي، وعليه فإن الذين سيقدمون على هذه الخطوة هم على الأغلب من اللاجئين الأجانب في تركيا من أفغانستان وإيران وسوريا والعراق وإيران ومصر، ممن تمكن خلال فترة إقامته من إنشاء شركة ولو صغيرة من أجل تمويل فترة إقامته، فالمبلغ المطلوب ليس كبيرا، ويمكن تأمين جزء منه من خلال قرض بنكي يتم سداده من عائدات إيجار العقار، هنا نتحدث عن نحو خمسة ملايين لاجئ يمكن أن يقدم ولو عشرة بالمئة منهم على هذه الخطوة.
تركيا تشهد حملة تجنيس غير مسبوقة للأجانب خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدأت بتوطين اللاجئين السوريين والمعارضين العرب وتتزايد مع هذا القانون الجديد. لا نستبعد هنا أن يلجأ آلاف المعارضين العرب المدعومين ماليا من قطر الذين لجأوا إلى تركيا للحصول على الجنسية التركية عبر هذا القانون الجديد، صحيح أنه بإمكان الحكومة التركية منحهم الجنسية مجانا – وقد حدث ذلك فعلا مع عدد منهم – لكن لماذا منحهم الجنسية مجانا فيما يمكن الحصول منهم أو من من يدعمهم ماليا على مقابل مالي لقاء الجنسية؟
في المقابل يشير معهد الإحصاء التركي الرسمي إلى تزايد ملحوظ في عدد الأتراك الذين يهاجرون من بلدهم دون رجعة، إذ بلغ عدد هؤلاء العام الماضي نحو ربع مليون تركي، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد مع الإعلان عن إحصاءات العام الجاري. فطلبات اللجوء للأتراك تتزايد بشكل مطرد إلى الدول الأوروبية مؤخرا، وقد أشار وزير التكنولوجيا مصطفى فارانك إلى هذه الظاهرة قائلا إن تركيا تخسر كثيرا من عقولها الشابة الذين يهاجرون إلى الغرب، وخصوصا أولئك الذين يدرسون في بعثات جامعية في الغرب.
لم يكلف الوزير نفسه عناء السؤال عن السبب الذي يعرفه القاصي والداني وراء هذه الظاهرة، فعدد الشباب الأتراك الذين يعتقدون أن مستقبلهم في تركيا بات قاتما في ازدياد بسبب سياسات حكومة العدالة والتنمية، والتراجع الكبير الحاصل في مستوى الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن الاعتقالات المتلاحقة منذ عامين حتى الآن بتهمة الانتماء لجماعة فتح الله غولن التي يمكن أن تطال أي شخص دون تقديم أي دليل ملموس، ناهيك عن التدهور الحاصل في الاقتصاد التركي. بل إن القرارات الجديدة للرئيس أردوغان حول آلية التوظيف في المؤسسات الحكومية التي يجب أن تمر عبر القصر الرئاسي وترشيح الحزب الحاكم، تنهي أي أمل لأي مواطن معارض في الحصول على وظيفة في مؤسسات الحكومة.
جميع المحللين الاقتصاديين يؤكدون أن أزمة تركيا المالية لا يمكن حلها جذريا إلا من خلال العودة إلى استقلال القضاء وتوسيع الحريات والشفافية، فهذه الخطوات وحدها هي التي يمكن أن تؤمن جوا استثماريا آمنا للمستثمرين الأجانب، وليس أدل على ذلك من انتعاش الاقتصاد التركي وحصوله على استثمارات أجنبية كبيرة خلال سنوات تقارب تركيا مع الاتحاد الأوروبي وإقرارها إصلاحات سياسية للارتقاء إلى مستوى الاتحاد الأوروبي في قوانينها وقضاءها، وتراجع هذه الاستثمارات تدريجيا مع ابتعاد تركيا مؤخرا عن معايير الاتحاد الأوروبي.
إن هذا العدد من المهاجرين الأتراك كان لا بد أن يدفع الحكومة لمراجعة سياساتها، لكن المسألة بالنسبة للرئيس أردوغان تبدو مختلفة، فهو الذي قال قبل عدة أشهر إن من لا يعجبه العيش في تركيا فأرض الله واسعة وعليه أن يرحل، في تصريح أثار الاستهجان من قبل الجميع، خصوصا وأن مهمة رئيس الدولة هي تأمين حياة كريمة للمواطنين وليس دفعهم للهجرة من وطنهم.
المسألة بالنسبة للرئيس أردوغان لا تتجاوز حسابات أصوات الناخبين الموالين له، فجميع المهاجرين الأتراك هم ممن لا تعجبهم سياساته في تركيا، بينما من يتم توطينهم وتجنيسهم مؤخرا هم من اللاجئين الذين انعدمت خياراتهم وتقطعت بهم السبل، والذين يدينون بالولاء للرئيس الذي منحهم حق الحصول على جنسية جديدة تبعد عنهم شبح الطرد أو الترحيل عن الدولة التي لجأوا إليها، وعليه فإن هجرة مئات الآلاف من الأتراك المعارضين وتجنيس مئات الآلاف من الموالين تعني زيادة في الأصوات الموالية للرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة، وهنا يلفت الانتباه تصريح وزير الداخلية سليمان صويلو بأنه سيتم إنشاء مراكز لمتابعة عمليات التجنيس وتسريعها للمستفيدين من القانون الجديد، في إشارة واضحة إلى وجود استعجال لكسب أكبر عدد من المجنسين في أسرع وقت.
تمر تركيا بمرحلة هندسة مجتمعية يقودها الرئيس أردوغان، تؤثر بشكل تدريجي على توجهات وثقافة الشعب التركي بشكل غير مسبوق، فبينما كان الجيش التركي متهما في حقبة وصايته على السياسة التركية قبل عقدين من الزمن بأنه يقوم بعملية هندسة مجتمعية، من أجل تعزيز قيم العلمانية والتغريب الثقافي، فإن الرئيس أردوغان يعمل حاليا على عكس هذا التوجه بشكل قوي، بحجة "إعادة تركيا إلى طبيعتها الأصلية"، ومن هنا تنطلق دعوات "العثمانية" من جديد، وتغيير عقيدة الجيش وضباطه الجدد مع تفضيل منتسبي الجماعات الدينية – الذين كان يرفض دخولهم السلك العسكري سابقا – إلى جامعة الأمن الوطني التي حلت محل الكليات العسكرية في تأهيل الضباط وتخريجهم.
تغيير تدريجي ولكنه خطير يحدث للتركيبة المجتمعية في تركيا، تظهر تداعياته وآثاره من خلال إحجام المزيد من المواطنين عن إبداء آرائهم بحرية أمام وسائل الإعلام وشركات استطلاعات الرأي، خشية أن تطالهم يد الأمن القوية، وكذلك ما عبر عنه الكاتب التركي الإسلامي كمال جان قبل عدة أيام في مقال له قال فيه "إن الكذب وتلفيق الحقائق بات أمرا مستساغا في تركيا بشكل غير مسبوق وغير مقبول" بسبب زيادة عدد الأخبار الكاذبة في وسائل الإعلام الموالية للحكومة وغياب الشفافية عن مسائل الحكومة، والأخطر -حسب المقال- ازدياد الشريحة التي تذعن لهذا التوجه ولا ترى فيه أي خطر على ثقافة المجتمع التركي.
اشتهرت في السابق قبل عقد من الزمن مقالات تركية وغربية حول "هوية تركيا" التي تجمع بين الشرق والغرب، ويجب ألا نستغرب مستقبلا من ظهور مقالات تحليلية تشير إلى تغيير كبير في تركيبة المجتمع التركي وتوجهاته، مع كل هذه التحولات الجارية حاليا في سياسات تركيا الداخلية والخارجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة