ذاكرة نازية وظلال روسية.. بولندا وألمانيا تبحثان عن أرضية مشتركة

يستعد كارول نافروتسكي رئيس بولندا لزيارة ألمانيا، الثلاثاء، في محطة بالغة الحساسية تحمل بين طياتها أبعادًا تاريخية وسياسية وأمنية متشابكة.
فالزيارة تأتي في ظل سياق مزدوج: من جهة، ذاكرة مريرة تعود إلى الحرب العالمية الثانية وما خلّفته من جراح مفتوحة في الوعي البولندي، ومن جهة أخرى تهديدات أمنية آنية تتمثل في انتهاكات مسيّرات روسية للمجال الجوي البولندي، وهو ما دفع وارسو إلى تعزيز مطالبتها بدعم أوروبي واضح وملموس.
خطاب مناهض لألمانيا
عرف نافروتسكي، الرئيس القومي الجديد الذي تولى منصبه في أغسطس/آب 2025، بخطابه المناهض لألمانيا منذ أن كان مديرًا لمعهد الذاكرة الوطنية المكلّف بملاحقة الجرائم النازية والشيوعية.
ولم يتردد نافروتسكي في اتهام برلين بالتعامل مع بولندا باعتبارها «شريكًا صغيرًا» أو «اقتصادًا رديفًا»، كما اتهمها مرارًا بإعادة المهاجرين إليها بطريقة مجحفة.
هذا الخطاب الشعبوي رسّخ صورته كمدافع عن السيادة البولندية في مواجهة ألمانيا، لكنه اليوم يجد نفسه مضطرًا لإعادة ترتيب أولوياته أمام التحديات الأمنية الروسية.
ويجد نافروتسكي نفسه اليوم أمام اختبار صعب في الموازنة بين خطاب قومي يستجيب لقاعدته الداخلية، وضرورات جيوسياسية تفرضها حقائق الحاضر.
ملف التعويضات النازية
جزء أساسي من خطابه الانتخابي كان قائمًا على المطالبة بتعويضات مالية من ألمانيا عن الجرائم التي ارتكبت إبان الحرب العالمية الثانية.
فقد خسرت بولندا نحو 6 ملايين من مواطنيها، بينهم 3 ملايين يهودي. ويصر نافروتسكي على أن هذه الخسائر تستوجب تعويضات عادلة، مكرراً أن بلاده «بحاجة إلى العدالة والحق والعلاقات الواضحة مع ألمانيا، ولكنها أيضًا بحاجة إلى تعويضات».
الحكومة البولندية القومية السابقة كانت قد قدرت في عام 2022 قيمة الخسائر بنحو 1300 مليار يورو، بينما ترى برلين أن بولندا تخلّت رسميًا عن هذه المطالب عام 1953 تحت ضغط الاتحاد السوفياتي. وبالنسبة لألمانيا، فإن إعادة طرح الملف اليوم لا يحمل أي مشروعية قانونية، بل يفتح جراحًا تاريخية يجب معالجتها بطرق أخرى غير مالية.
ألمانيا.. دعم أمني لا تعويضات
برلين لم تغيّر موقفها. فقد أكد المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفان كورنيليوس أن المستشار فريدريش ميرتس أخذ علماً بتصريحات نافروتسكي، لكن الموقف الألماني الرافض للتعويضات المالية لا يزال ثابتًا.
كورنيليوس شدّد في تصريحات سابقة على أن ملف الذاكرة والتصالح مع الماضي لم يُطوَ، إلا أن معالجته يجب أن تتخذ أشكالًا أخرى غير التعويضات المالية المباشرة.
وبالفعل، تحاول ألمانيا ترجمة هذا الموقف عبر خطوات عملية في مجال الأمن والدفاع.
فقد أعلنت برلين تمديد مهمتها لحماية الأجواء البولندية لثلاثة أشهر إضافية، إضافة إلى مضاعفة عدد مقاتلات «يوروفايتر» إلى أربع.
هذه الإجراءات تحمل رسالة دعم واضحة لوراسو، وتؤكد أن برلين قادرة على تعويض الرفض المالي بتعزيز الالتزامات الدفاعية داخل حلف الناتو.
تباين داخل بولندا
في الداخل البولندي، لا يحظى خطاب نافروتسكي بشأن التعويضات بإجماع سياسي.
فالحكومة الحالية برئاسة دونالد توسك، المؤيدة لأوروبا، ترى أن هذه المطالب قد تضر بالعلاقات الثنائية وتعرقل الشراكة الاستراتيجية مع برلين.
وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي عبّر عن هذا الموقف بوضوح، مؤكدًا أن ألمانيا لن تدفع تعويضات مالية أبدًا، وأن على وارسو التكيف مع هذا الواقع لصالح العلاقات الثنائية.
لكنه في الوقت نفسه اعتبر أن المطالبة بالتعويضات تبقى «مشروعة» من حيث المبدأ، ملمحًا إلى إمكانية ترجمتها عبر استثمارات ألمانية أكبر في الدفاع البولندي.
التوتر الروسي
الزيارة تأتي مباشرة بعد إعلان وارسو أن نحو 20 مسيّرة روسية انتهكت مجالها الجوي في الساعات الأولى من صباح الأربعاء.
هذا التطور اعتبرته بولندا وحلفاؤها «استفزازًا» من موسكو، وردًّا عليه أعلن الناتو عن تعزيز مساهماته في الدفاعات الجوية البولندية. وقرار ألمانيا بزيادة عدد مقاتلاتها يُقرأ أيضًا في هذا السياق، ما يجعل زيارة نافروتسكي اختبارًا لقدرة الطرفين على التمييز بين الخلافات التاريخية والتحديات الأمنية المشتركة.
العامل الأمريكي يزيد المشهد تعقيدًا. فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لا يخفي نافروتسكي إعجابه به، أثار صدمة في بولندا عندما لمح إلى أن خرق المسيّرات الروسية قد يكون «خطأ غير متعمد».
هذا التصريح زرع الشكوك في جدوى الرهان البولندي على تحالف غير مشروط مع واشنطن، خصوصًا في لحظة تشهد فيها أوروبا الشرقية تهديدات وجودية.
المحلل مارتسين زابوروفسكي من مركز «غلوبسك» للأبحاث حذر من أن «المؤشرات لا تؤكد أن واشنطن ستقف بقوة إلى جانب بولندا في هذه المرحلة الصعبة»، مشيرًا إلى أن ذلك يجب أن يدفع وارسو لتعزيز علاقاتها مع برلين وباريس كخيار استراتيجي بديل أو مكمّل.
دلالات الزيارة
يرى المحللون أن زيارة نافروتسكي قد تكون مزدوجة الدوافع. فمن ناحية، يسعى الرئيس البولندي إلى استثمارها داخليًا عبر إظهار تمسكه بمطالب قومية راسخة مثل ملف التعويضات. ومن ناحية أخرى، يهدف إلى ضمان التزام ألماني-فرنسي بدعم بولندا أمنيًا في مواجهة روسيا.
المحلل كاي-أولاف لانغ من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية أوضح في حديث لـ«فرانس برس» أن «برلين قادرة على الرد على خطاب نافروتسكي بحجج قوية في مجال السياسة الأمنية، وهو ما قد يضعف موقفه المتشدد داخليًا».
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI0IA==
جزيرة ام اند امز