من الأمور المزعجة في تطورات الأحداث بتونس حاليا أن حركة "النهضة" الإخوانية تتعاطى مع قرارات الرئيس قيس سعيد كما لو كانت مفاجئة.
وتحاول أجنحة "الإخوان" السياسية وذيولها الإعلامية تصوير فرحة الشعب التونسي الغامرة، والاحتفاء الإقليمي والعالمي بتلك الخطوة الإنقاذية التي قام بها "سعيد"، كأنها قطيعة مع الديمقراطية وتراجع عنها.
وتعتمد الجماعة الخبيثة على هذا التفسير المسموم في حملتها المنظمة للتشكيك بقرارات "سعيد" واستخدامها كفزاعة لمنعه من تصفية الورم الإخواني في تونس من جذوره.
المزعج في الموضوع ليس رد فعل تنظيم الإخوان وسوء استغلاله للبهجة الغامرة للتونسيين في كل مكان، وإنما رد فعل بعض الأطراف على خطوات الرئيس "سعيد" الشجاعة، حيث غلب على مواقف بعض الدول والمنظمات، وهي قلة، حالة ترقب وهدوء، أقرب إلى الهروب من اتخاذ موقف واضح ومحدد، وهو ما يمكن فهمه بسهولة من تجنب التعليق المباشر على ما جرى، والتركيز على الدعوة إلى "عودة الهدوء إلى تونس" و"استئناف المسار الديمقراطي"، وغير ذلك من تعبيرات ومواقف غير حاسمة ولا تصف بموضوعية ما جرى ولا يزال يجري هناك من تطهير لتونس من خبائث الإخوان وإحياء لروح وإرادة الشعب.
ربما يمكن تفسير الدوافع والقيود وراء تلك المواقف بالمعايير والمنطلقات الدبلوماسية، لكن مصائر الشعوب وأمنها واستقرارها يجب ألا ترتهن بالإجراءات الشكلية والبروتوكولات الدبلوماسية، التي يعكس التمسك بها أحيانا حرصا على الشكل أكثر من المضمون.
فحين تعجز مؤسسات الدولة والآليات الإجرائية الشكلية عن تجسيد جوهر وروح الديمقراطية على أرض الواقع، فإن تصدي القائمين على تلك المؤسسات من أجل مهمة استعادة إرادة الشعب، التي عبر عنها مرارا، يكون هو التجسيد العملي الصحيح والضروري للديمقراطية وتحقيق جوهرها الضائع.
وحين يفقد الشعب قدرته على الاختيار وإرادته في التغيير من خلال الآليات والإجراءات المقررة، فإن الخلل يكون في تلك الآليات وهذه الإجراءات، التي تصبح حينئذ بعيدة عن الديمقراطية، وإن ظلت كذلك من حيث الشكل والتسمية.
وليس أدل على ذلك من رسم سيناريو تخيلي لما كانت ستؤول إليه أوضاع تونس وأحوال التونسيين إذا لم يبادر الرئيس قيس سعيد بإجراءاته لإنقاذ الدولة.
كان صبر الشعب سينفد وقدرته على التحمل كانت ستنتهي ربما بانفجار لا تحمد عقباه، ولربما تحول الغضب المتراكم إلى وقود لحرب أهلية وفوضى شاملة تغذيها حالة التردي العامة التي بدأت تنتشر في كل مناحي الحياة هناك.
وثمة تساؤلات هنا يجب أن تكون هي الفيصل في تحديد الموقف والمعيار في الحكم على المشهد التونسي: إلى متى كان يجب على الرئيس التونسي الانتظار؟ وكم من الوقت كان يمكن للتونسيين التحمل؟ ومن الذي يمكنه المخاطرة بذلك الانتظار؟ ومن يضمن دفع التكلفة وتحمل عبء استعادة الاستقرار بعد الانهيار؟
إجابة تلك التساؤلات المبدئية كفيلة بوضع النقاط فوق الحروف، وجديرة بأن تكون هي الدليل أمام كل من يريد تقييم الحالة التونسية بواقعية وتجرد.
لم يلتفت الإخوان إلى أن تأخر انكشافهم في تونس لم يكن بفضل تنظيمهم، وإنما لطبيعة الشعب التونسي المتفتح، الذي يملك صبرا وسعة أفق وقدرة على استيعاب التنوع والاختلاف، لكن حين تكون حياة المجتمع ككل على المحك، ويصبح استمرار الأوضاع المتردية والاحتقان الشامل تهديدا مباشرا لمستقبل الدولة ومصير الأجيال المقبلة، فإن التونسيين الصبورين الليبراليين يكونون الدافع والظهير لرئيسهم كي ينقذهم من مؤامرات الإخوان.
لذلك، فإن بعض الأطراف، مثل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، مطالبة بالتخلي عن اللغة المحايدة والدبلوماسية المبالغ فيها عند تقييم المشهد في تونس، لأنها بهذه اللغة تفسح المجال أمام تنظيم "الإخوان" لممارسة هوايته في التضليل بتفسير ذلك الحياد على أنه تأييد لهم ولأطماعهم، التي تنحصر في السلطة والحكم، ولا صلة لها باستقرار شعب تونس أو أي شعب آخر.
إن التعامل الحذر والمتردد في هذه المحطات المفصلية في حياة الشعوب من شأنه توصيل رسالة غير سليمة وغير دقيقة، ويساعد، ولو بحسن نية، على تصوير الواقع على غير حقيقته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة