عسكرة الفضاء.. هل يندلع سباق تسلح جديد بين الدول الكبرى؟
موجة جديدة متوقعة من عسكرة الفضاء وسباق التسلح في سياق التنافس الاستراتيجي المحتدم بين الدول الكبرى
من المقرر أن ينعقد مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح مجددا بنيويورك، وذلك يومي 18 و22 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لمناقشة نزع أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وعلى خلفيته تقدمت الصين وروسيا بمقترحٍ لمنع سباقات التسلح وعسكرة الفضاء الخارجي، حيث عرضت كلتاهما صياغة وثيقة دولية ملزمة تحدد الضمانات اللازمة التي تحول دون وضع أي أسلحة في الفضاء.
وسبق لمؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح الانعقاد في مايو/ أيار 2019 بجنيف، حيث استمرت فعالياته حول سباق التسلح في الفضاء الخارجي على مدى يومين. واستمع المؤتمر آنذاك إلى مواقف عددٍ من الدول، بهدف الوقوف عليها وتقريبها، واستكشاف الأدوات الحالية والفرص والخيارات المتاحة التي تحول دون عسكرة الفضاء الخارجي. وعلى خلفيته، انسحبت الولايات المتحدة احتجاجًا على تولي فنزويلا الرئاسة الدورية للمنتدى الذي تشرف عليه الأمم المتحدة.
الدوافع الصينية
ترجع رغبة الصين في تقويض الجهود الأمريكية لعسكرة الفضاء إلى جملةٍ من الأسباب التي يأتي في مقدمتها الرغبة في إجهاض المساعي الأمريكية الرامية إلى تحييد الردع النووي الاستراتيجي الصيني أو التدخل في الشأن الصيني الداخلي. فقد تُمنَح الولايات المتحدة الفرصة للتدخل في شؤون الصين، خاصة في قضية تايوان، وهو ما يجد جذوره في تحركاتها لتعزيز التعاون في مجالي البحث والتطوير على صعيد الدفاع الصاروخي مع اليابان وتايوان في السنوات الأخيرة.
كما تهدف الصين إلى تجنب الابتزاز السياسي والاستراتيجي جنبا إلى جنب مع تجنب سباق التسلح في الفضاء الخارجي الذي من شأنه أن يحول الفضاء إلى ساحةٍ من ساحات المعارك التي لن يربحها أحد. كما يحد تسليح الفضاء من الأنشطة الفضائية الصينية المدنية والتجارية على حدٍّ سواء، ويؤثر سلبا في تنميتها الاقتصادية.
ويجادل عددٌ من المسؤولين الصينيين بأن الصين هي الهدف الحقيقي للدفاع الصاروخي الأمريكي وعسكرة الفضاء. فطبقًا لبكين، من غير المعقول أن تنفق واشنطن موارد ضخمةً على نظامٍ دفاعيٍ بحت يستهدف الدول المارقة فحسب؛ إذ تعد ترسانة الصين النووية الاستراتيجية الصغيرة هدفا محتملا للولايات المتحدة. وتخشى الصين من تهديد الترسانة النووية للقذائف الصاروخية المتنقلة التي تعمل الصين على تطويرها، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ الباليستية المضادة في عام 2002 التي أعطتها حرية التصرف قدما في الدفاعات الصاروخية.
ووفقًا لبكين، يعد الفضاء الخارجي تراثا مشتركا للبشرية. ولذا، سبق لها التقدم بمقترحاتٍ لإجراء محادثاتٍ لمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي (وهو ما تجلى على سبيل المثال في مؤتمر نزع السلاح في عام 2002). كما أكدت بكين في كتابها الأبيض للدفاع لعام 2004 رغبتها في أن يتخذ المجتمع الدولي إجراء قريبا لإبرام صكٍ قانونيٍ دوليٍ لمنع التسلح في الفضاء لضمان الاستخدام السلمي له.
وبجانب الدوافع السابقة، تخشى الصين من تداعيات الأسلحة الفضائية على التوازن والاستقرار الاستراتيجي، وتقويض الأمن الدولي والوطني، وتفاقم مشكلة الازدحام الفضائي نتيجة نشر عددٍ كبيرٍ من أسلحة الفضاء في المدار الأرضي المنخفض. فمن شأن إطلاق الأسلحة واختبارها أن يزيد الحطام الفضائي. ومن شأن الحرب الفضائية أن تُخلِّف كثيرا من ذلك الحطام الذي قد يحول دون تمركز الأقمار الصناعية مستقبلا في الفضاء. كما يعد تسليح الفضاء تهديدا بيئيا جنبا إلى جنب مع كونه مشكلةً أمنية.
المساعي والدوافع الروسية
من جهتها، تتخوف روسيا من تطلع الولايات المتحدة إلى توظيف الفضاء ساحة للحرب ومسرحا للعمليات العسكرية؛ إذ تطالب الولايات المتحدة بحقها في حرية المناورة، وترفض الدخول في محادثاتٍ مع روسيا والصين للحيلولة دون نشر الأسلحة في الفضاء. كما تخشى روسيا من اندلاع سباق تسلحٍ جديدٍ، خاصة مع اتجاه الدول الكبرى لزيادة ميزانياتها العسكرية. وقد أرجع البعض السبب وراء المساعي الروسية - الصينية إلى نشر الولايات المتحدة أنظمة للدفاع الصاروخي بالقرب من حدودهما.ووفقا لروسيا، تتحجج الولايات المتحدة بأن تطوير معاهدةٍ ملزمةٍ لا يعدو كونه قضيةً طويلة الأجل، ومن السابق لأوانه البدء في مفاوضاتٍ دون وجود أسلحةٍ فعليةٍ في الفضاء. لذا، من غير العملي - وفقًا للرؤية الأمريكية - فرض حظرٍ قانونيٍ ملزمٍ على عسكرة الفضاء. بل وتخصص الولايات المتحدة ميزانيةً ضخمةً لنشر أسلحة الضربة الفضائية، وبناء هيكلٍ قتاليٍ حقيقيٍ يمكنه تطهير الفضاء الخارجي من الممتلكات المدارية للدول التي لا ترضى عنها واشنطن.
وفي المقابل، تعددت الجهود الروسية - الصينية للحيلولة دون تسليح الفضاء؛ فقد سبق لكلتيهما أن اقترحت في مؤتمر نزع السلاح في عام 2008 مناقشة مشروع معاهدةٍ بشأن منع وضع أسلحةٍ في الفضاء الخارجي أو استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد الأجسام الفضائية، بهدف الحفاظ على الفضاء الخارجي للاستخدام والبحث للأغراض السلمية على قدم المساواة بين جميع الدول. وهو ما رفضته الولايات المتحدة، لأن مشروع المعاهدة الروسية - الصينية لمنع الأسلحة في الفضاء - جنبا إلى جنب مع تشكيل إطارٍ قانونيٍ دولي - يحد من قدرتها على استخدام الفضاء لأغراضٍ عسكرية.
الموقف الأمريكي
تلقي الولايات المتحدة باللوم على الصين وروسيا في تسليح الفضاء، خاصة بعد أن سعت كلتاهما وراء أسلحةٍ مضادةٍ للأقمار الصناعية وأسلحة الليزر من بين قدراتٍ هجوميةٍ أخرى، وتراجعت الثقة الأمريكية في جهود الحد من الأسلحة الروسية.
وقد سبق للولايات المتحدة أن رفضت الخطط السابقة التي طرحتها موسكو وبكين لمنع عسكرة الفضاء الخارجي في عامي 2008 و2014. كما رفضت الولايات المتحدة القرارات الأربعة للاجتماع الأول للجنة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 2018، الذي تناول نزع السلاح ومنع تسليح الفضاء. كما رفضت اقتراحا تقوده روسيا في الأمم المتحدة لحظر نشر الأسلحة الفضائية.
ويرى البعض الرفض الأمريكي للمقترح الصيني - الروسي الأخير امتدادا لمبادرة الدفاع الاستراتيجي التي عرفت لاحقا باسم "حرب النجوم"، والتي هدفت لاستخدام الأرض والنظم الفضائية لحماية الولايات المتحدة من هجومٍ بالصواريخ الباليستية النووية. ولا شك أن الانتشار الكبير لأسلحة الدمار الشامل وامتلاك عديد من الدول للصواريخ الباليستية بعيدة المدى يجعل الفضاء ساحةً لأمن الولايات المتحدة ويدفعها لتعزيز قدرتها على الردع.
ولا يمكن تفسير الموقف الأمريكي بمعزلٍ عن دعوة "دونالد ترامب" إلى مراجعة الدفاع الصاروخي في العام الجاري بهدف اعتراض واكتشاف وتدمير أي تهديداتٍ من الفضاء، ناهيك بتأسيس "القيادة الفضائية الأمريكية" في أغسطس/ آب 2019. فقد أعادت الولايات المتحدة تأسيسها كي تكون الذراع العملية للجيش الأمريكي في الفضاء، في اتجاهٍ مضادٍ لعسكرته وسباق التسلح بين الدول الكبرى. إذ تعد الفرع السادس من القوات المسلحة التابعة للقوات الجوية الأمريكية التي ستقوم بتنظيم وتدريب وتجهيز فيلق من مشغلي الفضاء العسكريين عقب موافقة الكونجرس.
وقد تأسست القيادة الفضائية الأمريكية لردع العدوان، وضمان التفوق الأمريكي على منافسيها، والدفاع عن المصالح الأمريكية الحيوية في الفضاء كمجالٍ جديدٍ للحرب، وإنجاز مهماتٍ مباشرةٍ في مجال الفضاء، وتعديل مناخ المنافسة الاستراتيجية. أو بعبارةٍ أخرى، تأتي النسخة الجديدة من تلك القيادة رد فعلٍ على القدرات العسكرية الروسية والصينية المتعاظمة، واستثمارات كلتيهما في العمليات الفضائية.
فمع تقدم تكنولوجيا الأقمار الصناعية إلى ما هو أبعد من غرضها الأصلي المتمثل في توفير الصور والمعلومات غير المتوفرة، تتعرض تلك التكنولوجيا لأسلحةٍ مضادةٍ للأقمار الصناعية، وهجمات الطاقة الموجهة، والتشويش الإلكتروني. ومن ثم، يتطلب الأمر تطوير القدرات الهجومية والدفاعية لحماية الأصول الفضائية، بعد أن بات الفضاء الأساس للتجارة والأمن القومي من ناحية، وعسكرة الخصوم للمجال الفضائي من ناحيةٍ أخرى.
وبالإضافة إلى الخبرة الفنية التي ستوفرها القيادة الفضائية الجديدة، يرسل إنشاؤها أيضا برسالة قوية إلى أي خصوم في المستقبل بأن الولايات المتحدة جادة في استخدام القوة الفضائية بقدر اهتمامها بحماية المصالح الأمريكية.
وفي مارس/ آذار 2019، خصصت وزارة الدفاع الأمريكية مبلغ 304 ملايين دولار لإنشاء كوكبةٍ مداريةٍ من الأقمار الصناعية وبناء واختبار أسلحة النيوترونات التي تدور حول الأرض لاعتراض الصواريخ الباليستية وتدميرها. ومن المقرر اختبار الأسلحة الجديدة في عام 2023، ردا على تطوير روسيا صواريخ "بورافيستنيك" و"كينجال" و"أفانجارد" الحديثة، وهو ما يعني بدء مرحلةٍ جديدةٍ من تطوير الأسلحة ذات التقنية العالية.
الخيارات المتاحة
من المرجح أن تضطر الصين إلى بناء مزيدٍ من الرؤوس الحربية للحفاظ على رادعها النووي، ما قد يشجع الهند وباكستان بدورهما على تطوير قدراتهما الحربية والنووية. ومن جانبها، هددت روسيا بالرد على نشر الأسلحة الفضائية والتهديدات المحتملة بتدابير وإجراءات مماثلة. كما حذرت من عسكرة الفضاء الخارجي. ولذا، يكمن الخيار الأفضل لكلتيهما في استمرار الجهود الدبلوماسية المبذولة بهدف التوصل إلى اتفاقٍ لمنع الأسلحة الفضائية، إلا أن فشل تلك الجهود قد يصاحبه جهود لتحييد التهديد الأمريكي رغم صعوبة تحديد التدابير المضادة بشكلٍ قاطع.
وتتمحور الخيارات المحتملة حول بناء مزيدٍ من القدرات العسكرية من ناحية، والتوسع في أعداد الصواريخ العابرة للقارات من ناحيةٍ أخرى. وقد يتغير حجم ونوعية ترسانة الصين النووية، جنبا إلى جنب مع الخطط الصينية للحفاظ على قدراتها الانتقامية، خاصة إذا نشرت الولايات المتحدة دفاعا صاروخيا متطورا من الناحية التشغيلية. وقد تتجه الصين لاختراق نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي أو إخفاء رؤوسها النووية باستخدام تدابير التشويش الإلكتروني وأشعة الليزر. فقد أجرت الصين بالفعل اختبارات للطيران الصاروخي لذلك الغرض.
وقد تتجه الصين وروسيا إلى التطوير المضطرد للدفاعات الصاروخية لإحباط القدرات الهجومية الأمريكية؛ فقد حققت الصين بالفعل خطوات كبيرة في هذا الاتجاه من خلال تطوير قاذفاتٍ صاروخيةٍ تعمل بالوقود الصلب لتحترق بشكلٍ أسرع بالمقارنة بمثيلاتها السابقة التي كانت تعمل بالوقود السائل. وعلاوة على ذلك، قد تلجأ الصين إلى تطوير الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، لمواجهة المكونات الحرجة والضعيفة في الفضاء في المدار الأرضي المنخفض، مثل: أجهزة الاعتراض الفضائية، والليزر الموجود في الفضاء.
وقد يكون الخيار الصيني الأمثل هو المركبات الصغيرة الحركية التي تطلق من الأرض، والتي يمكن استخدامها لتدمير هدفها من خلال التصادم معه بسرعةٍ عاليةٍ للغاية، نظرا لانخفاض تكلفتها نسبيا وسهولة تطويرها على الصعيد التقني.
ختاما، يعدّ الفضاء مسرحا محتملا للعمليات العسكرية، ومن شأن الإطار القانوني الملزم أن يقوض من الهيمنة الأمريكية، ويحد من قدرتها على استخدام الفضاء لأغراضٍ عسكرية، ويهدد مصالحها القومية، بل ومصالح الحلفاء أيضا. ومن ثمّ، ترغب الولايات المتحدة في الحفاظ على ميزتها التنافسية في الفضاء للحفاظ على تفوقها الاستراتيجي في مواجهة التطوير الروسي والصيني للأسلحة المضادة للأقمار الصناعية التي يمكنها مهاجمة الأقمار الصناعية الأمريكية. ومن شأن ذلك، أن يطلق موجة جديدة من عسكرة الفضاء وسباق التسلح في سياق التنافس الاستراتيجي المحتدم بين الدول الكبرى.