العراق ينتخب.. الأحزاب ترصد الفرص في «انقسام الشيعة» والشارع «قلق»
الساحة السياسية العراقية تدخل مرحلة جديدة من الصراع الانتخابي، تتسم بارتباك غير مسبوق في البنى التنظيمية للأحزاب وتراجع ثقة الشارع.
ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تتكثف التحالفات والتفاهمات خلف الكواليس بين القوى الشيعية والسنية والكردية، لكن دون رؤية واضحة أو مشروع وطني جامع.
وتبدو هذه الانتخابات، على غرار الدورات السابقة، ساحة لإعادة تموضع القوى التقليدية أكثر من كونها فرصة لتغيير حقيقي في المشهد السياسي، وفق مراقبين.
فالأحزاب المهيمنة ما تزال تراهن على أدوات النفوذ ذاتها: المال السياسي، الولاءات الطائفية، وشبكات المصالح الإدارية، في وقت يعاني فيه المواطن العراقي من تراجع الخدمات وتصاعد الأزمات المعيشية.
وفي هذا السياق، يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى تثبيت موقعه السياسي من خلال تقديم نفسه كزعيم تكنوقراطي قادر على تحقيق توازن بين المطالب الشعبية وضغوط الإطار التنسيقي، الذي يضم القوى الشيعية المقربة من إيران.
غير أن هذا التوازن الدقيق يبدو مهدداً بفعل تصاعد الخلافات داخل الإطار نفسه، خصوصاً بين جناح السوداني وجناح رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، ما قد ينعكس على استقرار الحكومة ومخرجات العملية الانتخابية المقبلة، على حد قول المراقبين.
إقليمياً، تراقب إيران والولايات المتحدة المشهد العراقي عن كثب، كل وفق مصالحه؛ فطهران تسعى إلى الحفاظ على وحدة المعسكر الشيعي وعدم تكرار تجربة الانقسام عام 2021، بينما تراهن واشنطن على دعم قوى أكثر استقلالاً عن النفوذ الإيراني لتقليل هيمنة الفصائل المسلحة على القرار السياسي.
في المجمل، تُظهر المؤشرات أن الانتخابات القادمة ستكون اختباراً حقيقياً لمعادلة "الاستقرار مقابل الإصلاح" التي تبناها السوداني منذ توليه المنصب، بل إن قدرة رئيس الوزراء على إدارة هذا التوازن ستحدد مستقبل التحالفات السياسية وشكل الحكومة المقبلة.
الانقسامات الداخلية
يُعدّ المعسكر الشيعي الأكثر تأثيراً في تحديد ملامح الانتخابات العراقية المقبلة، غير أنه يواجه اليوم تحديات داخلية عميقة تهدد تماسكه السياسي والتنظيمي.
ومنذ تشكيل حكومة محمد شياع السوداني، اتسعت الهوة بين جناحين رئيسيين داخل الإطار التنسيقي: جناح نوري المالكي الذي يسعى إلى استعادة نفوذه المركزي، وجناح السوداني الذي يحاول تقديم نموذج أكثر اعتدالاً ومرونة في العلاقة مع الأطراف المحلية والدولية.
في هذا الإطار، لم يكن غياب السوداني عن الاجتماع الأخير للإطار التنسيقي الذي عُقد في مكتب المالكي مجرد تفصيل بروتوكولي، بل مؤشراً على توتر متصاعد بين الرجلين، خصوصاً بعد قرار السوداني بإبعاد هشام الركابي، المستشار الإعلامي السابق للمالكي، من عضوية مجلس مفوضي هيئة الإعلام والاتصالات وتعيين باسم العوادي بديلاً عنه.
هذه الخطوة الأخيرة فسرها مراقبون بأنها رسالة سياسية واضحة تؤكد رغبة السوداني في تقليص نفوذ المالكي داخل مؤسسات الدولة.
من جهة أخرى، يسعى المالكي إلى إعادة توحيد صفوف القوى الشيعية التقليدية حوله عبر خطاب يدعو إلى "حماية مشروع الدولة" و"صون هيبة الإطار"، في حين يركز السوداني على ترسيخ صورته كزعيم تنفيذي يضع "المصلحة الوطنية فوق الحسابات الفئوية".
محاولات التهدئة
ورغم محاولات التهدئة المتكررة، فإن العلاقة بين المالكي والسوداني تتجه نحو مرحلة اختبار صعبة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي ستحدد موازين القوة داخل البيت الشيعي.
وقالت مصادر مطلعة لـ"العين الإخبارية" إن "زعيم تحالف قوى الدولة الوطنية المنضوية في الإطار، عمار الحكيم، يقود محاولة للتهدئة بين المالكي والسوداني".
ولا يعارض الحكيم، الذي يطرح خطاباً أكثر اعتدالاً ومشروعاً يبتعد فيه عن القوى السياسية الشيعية التقليدية، التمديد لولاية ثانية للسوداني.
وأضافت المصادر، التي فضلت عدم الكشف عن هويتها، أن السوداني يراهن على شعبيته المتنامية في الشارع وقدرته على جذب الكتلة الصامتة، بينما يعتمد المالكي على إرثه التنظيمي وشبكات النفوذ القديمة داخل مؤسسات الدولة والتكتلات الشيعية.
وتابعت المصادر أنه: "بين هذين المسارين، تبدو القوى الأخرى داخل الإطار، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق، في موقع الوسيط الحذر، فهي تدرك أن أي تصعيد بين السوداني والمالكي سيضعف الموقف الشيعي الموحد أمام الكتل السنية والكردية، ويفتح الباب أمام تدخلات إقليمية جديدة في المشهد العراقي".
وأشارت إلى أن "تصاعد الخلافات داخل الإطار التنسيقي بين جناحي المالكي والسوداني سوف يؤثر على شكل التحالفات المقبلة وإدارة الحكومة".
ومضت قائلة إن الانقسام الشيعي الراهن "شجع الأطراف السنية والكردية على التحرك لتثبيت مكاسب سياسية إضافية، سواء عبر المناصب التنفيذية أو عبر إعادة التفاوض على الملفات الخلافية مثل الموازنة والنفط والمناطق المتنازع عليها".
وفي هذا السياق، كثف القيادي البارز في تحالف السيادة بزعامة الشيخ خميس الخنجر (تحالف سني) شعلان الكريم لقاءاته مع قيادات الإطار التنسيقي للبحث عن ضمانات تضمن استقرار التفاهمات السياسية، فيما أجرى الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني اتصالات مع قوى سنية بارزة لتنسيق المواقف بشأن المرحلة المقبلة.
من جانبه، يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى احتواء التوتر داخل الإطار من خلال تأكيده على وحدة الموقف الشيعي ودعوته جميع الأطراف إلى تغليب المصلحة الوطنية، فيما يواصل المالكي لقاءاته مع حلفائه التقليديين لتثبيت موقعه كمرجعية سياسية ضمن البيت الشيعي.
فرصة تفاوضية
من جانبه، قال الباحث السياسي أحمد عبد السادة الحلفي لـ"العين الإخبارية" إن "القوى السنية والكردية تتابع بقلق بالغ مظاهر الانقسام داخل البيت الشيعي، لكنها في الوقت ذاته ترى في هذا التصدع فرصة لتعزيز مواقعها التفاوضية في مرحلة ما بعد الانتخابات".
وأضاف الحلفي: "فمن جهة، تدرك القيادات السنية، ولا سيما ضمن تحالف "تقدم" بقيادة محمد الحلبوسي، أن غياب الجبهة الشيعية الموحدة سيضعف موقع الإطار التنسيقي في أي مفاوضات لتشكيل الحكومة، ما يمنح القوى السنية مساحة أكبر للمناورة وفرض شروط سياسية تتعلق بملفات الأمن والإعمار وتوزيع المناصب العليا".
ومضى قائلاً: "في المقابل، يحاول منافس الحلبوسي التقليدي، خميس الخنجر، استثمار الانقسام الشيعي للتقرب من جناح نوري المالكي داخل الإطار، في محاولة لتشكيل تكتل مضاد يعيد رسم خريطة التوازن داخل المكون السني نفسه".
موقف الأحزاب الكردية
من جهته، قال المحلل السياسي الكردي إحسان عميدي إن "القوى الكردية فموقفها أكثر تعقيداً؛ فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني يتعامل بحذر مع تصاعد الخلاف بين قوى الإطار، إذ يخشى أن يؤدي تفكك الجبهة الشيعية إلى تعطيل الاتفاقات النفطية والمالية المعلقة مع بغداد".
ومع ذلك، فإن الديمقراطي الكردستاني يرى أن الانقسام الشيعي "يمنحه ورقة ضغط إضافية للمطالبة بتطبيق بنود الدستور الخاصة بالمناطق المتنازع عليها وحصة الإقليم من الموازنة"، وفق عميدي.
وأضاف عميدي لـ"العين الإخبارية" أنه: "في المقابل، يتخذ الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني موقفاً أكثر تحفظاً، ويميل إلى الاصطفاف مع قوى الإطار التنسيقي حفاظاً على علاقاته الوثيقة مع طهران وبغداد".
وأوضح أن "بصورة عامة، يمثل الانقسام الشيعي الحالي نقطة تحول في حسابات القوى السنية والكردية، التي أصبحت أكثر ميلاً للتعامل مع المشهد العراقي بوصفه ساحة مفتوحة للتوازنات، وليس كتقاطع طائفي تقليدي".
قبل أن يستدرك: "مع ذلك، فإن هذا الانفتاح لا يخلو من مخاطر، إذ قد يؤدي استمرار الشرخ الشيعي إلى فراغ سياسي يعطل عملية تشكيل الحكومة ويدفع جميع المكونات إلى الدخول في مرحلة مساومات مفتوحة لا تضمن لأي طرف مكاسب ثابتة أو استقراراً طويل الأمد".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTYxIA== جزيرة ام اند امز