تتجه الولايات المتحدة إلى مسار جديد في إطار علاقاتها الخارجية اعتماداً على استراتيجية المواجهة والتلويح بالخيارات العسكرية المباشرة.
ووفقاً لرؤيتها لإدارة علاقاتها الخارجية، وهو ما برز بوضوح مؤخراً في التعامل مع الجانب الإيراني من خلال اتباع الخطة "باء"، التي سبق وأن طرحت في سياق فريق العمل الخاص بالخارجية الأمريكية، وعدد من مستشاري الإدارة الأمريكية، الذين أوصوا بالتعامل على مسارات متعددة مع الجانب الإيراني، وعدم الاكتفاء بالرسائل السياسية التي حاولت الإدارة الأمريكية التوجه بها قبل وصولها إلى البيت الأبيض، وتعامل معها الجانب الإيراني بعدم الاكتراث ومراوغات، ومن خلال استراتيجية من التشدد في الطرح وإعادة تكرار الخطاب السياسي والإعلامي، مثلما كان وقت إدارة الرئيس السابق ترامب، وهو ما سيدفع بقوة إلى إعادة النظر فيما هو جارٍ، خاصة أن واشنطن قدمت خيارات وبدائل ومسارات تفاوضية قابلها - إيرانيا وبصورة مباشرة - تصعيد نغمة العداء والهجوم على الإدارة الأمريكية، والإعلان عن خطوات انفرادية متعلقة بعدم الالتزام ببنود الاتفاق النووي، حيث زادت طهران كمية ونوعية اليورانيوم المخصب وبدأت في بناء ونشر أجهزة طرد مركزي متطورة أسرع مما يسمح به الاتفاق النووي.
كما تم منع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما يعد انتهاكا لمعاهدة حظر الانتشار النووي، وبالتالي سينفتح المشهد الراهن على سيناريوهات متعددة في ظل المخطط الإيراني بالضغط على الإدارة الأمريكية لدفعها لرفع منظومة العقوبات، وإعادة الاتفاق بقرار مباشر، وبدون الارتكان لأسس العلاقات ومعطياتها السياسية والاستراتيجية المستجدة، والتي ستضع الإدارة الأمريكية في حرج، حيث ستفقد الإدارة نفوذها في تحريك المشهد التفاوضي انطلاقاً من حسابات سياسية واستراتيجية محددة، وربما سيكون الأمر متعلقاً بمزيد من الإجراءات التصعيدية التي ستقدم عليها الإدارة الأمريكية حال تصعيد الأمر عسكرياً والتلويح بالخيار العسكري، وهو ما جرى مؤخراً من خلال إجراء المناورات في بحر العرب وخليج عمان وبمشاركة كل من فرنسا واليابان وبلجيكا من خلال حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول، وكذلك السفينة الهجومية البرمائية الأمريكية "يو إس إس ماكين آيلاند"، ومشاركة الفرقاطة البلجيكية والمدمرة اليابانية، بالإضافة إلى طائرات من الدول الأربع.
وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة ستعمل على الانخراط استراتيجيا وعسكريا في إشارة لها مغزاها السياسي والاستراتيجي معا، ما يؤكد أن إدارة الرئيس جو بايدن لن تسقط أي خيار مطروح في التعامل مع إيران، خاصة مع تحديد المهام الاستراتيجية الجديدة للقيادة المركزية في الشرق الأوسط، وتتالى وصول القطع العسكرية الأمريكية للموانئ العربية، وبالقرب من مناطق التماس الاستراتيجي، ما يعني أن الإدارة الأمريكية قد تبدأ في تغيير زوايا حركتها تجاه إيران، والرسالة أيضا لكوريا الشمالية.
وفي نفس المسار، قامت القوات الأمريكية أيضا بمناورات عسكرية في أمريكا الشمالية مع كندا في إطار مراجعة التقييمات الاستراتيجية ومهام القوات الأمريكية للتعامل مع المخاطر والتحديات الواردة على الأمن القومي الأمريكي، وقد شملت المناورات تدريبات دفاع جوي مشتركة في القطب الشمالي، وفق ما أعلنه ممثلو القيادة المشتركة للدفاع الجوي الفضائي لأمريكا الشمالية. وجرت المناورات فوق مناطق القطب الشمالي الكندية وستستمر حتى 26 مارس الجاري، ما يؤكد أن الإدارة الأمريكية ستتعامل بكل الوسائل المطروحة استراتيجياً وأمنياً، وفي مناطق متعددة بدليل وصول حاملة الطائرات الأمريكية إلى الساحل الشمالي الغربي لجزيرة كريت، حيث أظهرت زيارة الميناء هذه القدرات النوعية التي توفرها سودا (مدينة في جزيرة كريت) لدعم الوجود الأمريكي في منطقة شرق البحر المتوسط الديناميكية استراتيجياً، وقد أتاح وجود حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي آيزنهاور" في البحر المتوسط للقوات المسلحة للدول الصديقة مثل اليونان الفرصة لإجراء العديد من التدريبات مع نظرائهم الأمريكيين، خاصة أن مشاركة القوات المسلحة اليونانية في هذه العملية أثبتت الدور المهم الذي تلعبه اليونان والولايات المتحدة في الدفاع والأمن لمنطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط، لا سيما في إطار اتفاقية التعاون الدفاعي المتبادل المحدثة، كجزء من هذه التدريبات، حيث تم دمج الفرقاطة البحرية اليونانية "بسارا" مع مجموعة آيزنهاور كاريير سترايك (IKE CSG).
كل هذه التحركات العسكرية الأمريكية، وغيرها تؤكد أن الإدارة الأمريكية - ومن الآن فصاعدا - سيعلو صوتها وفقاً لقاعدة الخيارات العسكرية في الحضور السياسي الأمريكي في العالم مع الانخراط مجددا في قيادة العالم، كما أشار الرئيس بايدن في مطلع توليه مهامه الفيدرالية في البيت الأبيض، وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية ستحاول أن تثبت حضورها الاستراتيجي في دوائر حساباتها السياسية والاستراتيجية الممتدة في بقاع مختلفة، وليس فقط في الشرق الأوسط، وهو ما سيمتد أيضا في إطار علاقاتها مع روسيا بعد إقرار منظومة العقوبات ودخول الرئيس جو بايدن في تلاسن مع الرئيس الروسي بوتين ووصفه بالقاتل، وهو ما يكشف عن أن السياسة الخارجية الأمريكية الحالية ستدور في مساحات من المواجهات المحتملة مع الأطراف المناوئة مع إيران أو كوريا الشمالية وروسيا، والمعنى أن طرح الخيارات السياسية لإدارة الرئيس بايدن سيمضي وإلى جوارها الخيارات العسكرية لفرض المصالح الكبرى للولايات المتحدة حتى لو تطلب الأمر إعادة إرسال القوات الأمريكية إلى بقاع متعددة في العالم مجدداً، بدليل دراسة الرئيس بايدن، الإبقاء على القوات الأمريكية في أفغانستان حتى نوفمبر المقبل، بدلا من مايو من العام الجاري، وهو الموعد المحدد في الاتفاق مع حركة طالبان الأفغانية.
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية قد طرحت عدة خيارات على الرئيس الأمريكي، بينها سحب القوات في مطلع مايو المقبل تقريباً، وإبقاؤها لأجل غير مسمى أو لفترة معينة يحددها بايدن بنفسه، والرسالة الأخيرة أن الرادع العسكري للولايات المتحدة سيظل قائما ومطروحا في مواجهة أي خيارات أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة