تأتي أعمال العنف في إقليم دارفور السوداني بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تسلّم الخرطوم لمهام الأمن.
من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي العاملة في البلاد منذ 13 عاماً، وانسحبت البعثة الأممية المشتركة لحفظ السلام بدارفور – يوناميد - من الإقليم اعتباراً من يوم 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ومنذ سقوط عمر البشير في شهر أبريل/نيسان 2019م في أعقاب الثورة الشعبية العارمة، بدأ أتباع نظامه البائد في وضع العراقيل أمام الحكومة الانتقالية عبر استخدام العديد من الأساليب، في مقدمتها الخنق الاقتصادي وافتعال الأزمات ونشر الشائعات، وعندما فشلت تلك الأمور بدؤوا في تأجيج نيران الصراع القبلي والمذهبي في العديد من الولايات.
وعندما استولى النظام الإسلاموي على السلطة عبر الانقلاب العسكري في يونيو 1989م، بدأ في تطبيق سياسة في غاية الخطورة تهدف إلى شق صف القبائل وتقسيم الإدارات الأهلية عبر استخدام المال وشراء الذمم، وقد ترافقت هذه السياسة مع اشتعال الحروب الأهلية في عدد من أقاليم السودان وما صاحبها من خطوات حكومية لصناعة المليشيات القبلية ومدها بالسلاح والأموال لخوض الحرب نيابة عن الدولة، وتحولت الأزمة في دارفور من نزاع قبلي إلى قضية إقليمية ودولية، ما أدى بفعل الضغوطات الغربية إلى دخولها أروقة مجلس الأمن، وكان النزاع بالأساس جوهره العنصر القبلي بامتداداته الأفريقية، وسرعان ما بدأت التحركات السياسية الخارجية للهيمنة على البلاد واستثمار ثرواتها.
أعنف المعارك تدور في المناطق الغنية بالنفط ويُصدّر السودان منذ عام 1999م نحو 250 ألف برميل نفط يومياً، وهو بحاجة إلى موارد جديدة، ويسعى الجيش السوداني إلى إبعاد المتمردين إلى ما وراء حقول النفط الواعدة، والأزمة بحد ذاتها تعود إلى مؤتمر برلين عام 1884م الذي قرر أن يجعل دارفور جزءاً من المستعمرات الفرنسية، ورفض مقاومة أهل دارفور جعلت المنطقة جزءاً من سودان وادي النيل، والأزمة عكس ما يشاع بأنها أزمة إثنية بين المجموعات العربية وغير العربية، بل هي أزمة قبلية، لذلك فإن نفس النهج الذي أخذته حرب الجنوب سارت عليه الأوضاع في دارفور، ومن بينها تحريض القبائل على بعضها، واستخدمت وسائل قلما توصف به أنها مدمرة للسودان وبرزت احتمالات التدخل الأجنبي المرفوض، وسط هذه الأجواء المضطربة والمعالجات المتسرعة، اشتعلت الأزمة التي كانت نائمة.
وفي إقليم دارفور، الذي شهد منذ عام 2003 واحدة من أسوأ الحروب الأهلية بتمردها وأُزهِقَت فيها أرواح وسالت فيها دماء كثيرة، وعلى غير قضية التعاطي مع ملف الحرب والسلام في الإقليم، تبدو قضية تسليح القبائل والمليشيات، وانتشار السلاح في أيدي المدنيين، الملف الأكثر تعقيداً، الذي يلعب دوراً حاسماً في تغذية النزاعات القبلية في دارفور، وهناك جهات داخلية حاكمة تعمل على تنفيذ سياسة شدّ أطراف ونشر الفتن في البلاد بغرض تمرير أجندة في المركز. ولم تطرح الحكومة آنذاك حلولاً للإقليم سوى التوقيع على اتفاق سلام مع حركات متمردة، ويواجه الاتفاق نفسه مصاعب جمة لعدم اكتماله، بتوقيع حركة رئيسية هي حركة تحرير السودان، ولا تضع تلك الوقائع أمن إقليم دارفور وحده على المحك، بل تمثّل اختباراً جدياً لقدرة وإرادة السلطة الانتقالية التي تشكلت في السودان بعد الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الرئيس عمر البشير في أبريل 2019.
ومنذ تشكيل السلطة الانتقالية، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، في وقت أعادت فيه الأحداث الأخيرة ملف دارفور لمجلس الأمن الدولي مرة أخرى، ما سيجعل السودان في وضع أقرب للوصاية الدولية، وكل تلك التقاطعات والتباينات وبإقرار رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، تسببت في العجز الاقتصادي وفي الاختلالات الأمنية في دارفور.
ولتجاوز مظاهر الأزمة والاضطرابات القبلية وعمليات النهب المسلح والنزاعات هو استمرار الحكومة بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي، والمساعي الجادة من الهيئات الدولية لتهدئة الأوضاع والبدء بإيجاد حل للمشكلات عبر المفاوضات المقترحة، بحيث يمهد التشكيل الوزاري الجديد لمعالجة العديد من الأزمات حفاظاً على البلاد من تدهور الحياة العامة، ويستوعب اتفاق السلام، وأمام الحكومة أوضاع الأقاليم بما فيها مأساة إقليم دارفور، واضطلاع المستنيرين من أبناء الإقليم للاستفادة من قدرات الدولة للتأهيل الاجتماعي والتعايش السلمي بين المجموعات السكانية، وتطوير عمليات التنمية وتلبية طموح الشعب السوداني في السلام والحرية والعدالة، بعيداً عن المشاريع والقرارات المشبوهة الرامية إلى التدخل في شؤون السودان الداخلية واستهداف وحدته واستقلاله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة