تفسير موقف أردوغان الأخير تجاه التقارب مع مصر باعتباره عقلانية سياسية هو تفسير خاطئ.
لأن العقلانية السياسية لا تأتي من باب الإجبار أو حين يشعر صاحب السلطة السياسية أنه مغلوب على أمره ومجبر على السير في اتجاه معين رغم أنه ادعى سابقاً خطأ ذلك الاتجاه بل بالغ في الترويج لخطئه.
أردوغان ومنذ القطيعة مع مصر بعد ثورة 30 يونيو بالغ في الخصومة مع مصر، وسلك كل الطرق التي من شأنها التأثير على مسار مصر وتعطيل إنجاز مراحل الحكم التي تلت الثورة.
ظلت تركيا على مدار سبعة أعوام قاعدة انطلاق الهجوم والتشويه والتعطيل على مصر، ولم يترك الرئيس التركي منبراً عالمياً إلا وهاجم عبره مصر وقادتها.
لم يترك ملفاً يمكن أن يسبب مناكفة سياسية لمصر إلا وتدخل فيه ولعل الملف الليبي دليل على ذلك.
وفي كل مرة كانت تصريحاته السياسية تؤكد أن مواقفه جاءت بناء على قرار مدروس ومحكم ولا يمكن أن يحدث تراجع فيه إلا بالشروط التي وضعها لنفسه وقتها، وهي عودة محمد مرسي إلى الحكم وإطلاق معتقلي الإخوان.
هذه الخلفية حين نستحضرها ونحن نقيّم موقف الرجل الأخير من الغزل العفيف لمصر يجعلنا ندرك تماماً أنه لا يمكن الحكم على تلك القرارات الأخيرة بأنها عقلانية سياسية إطلاقاً، بل هي نتيجة الإجبار والقهر السياسي.
في المقابل، لا يمكن لأي سياسي أن يرصد ولو مجرد تصرف واحد صدر عن القيادة المصرية يُصنف في إطار عدم العقلانية السياسية أو التهور السياسي أو التخبط أو الارتباك إطلاقاً منذ أن أعلن أردوغان الصراع، لم يذكر الرئيس المصري اسم أردوغان ولا اسم بلده.
لم تنجر مصر إلى خطاب شعبوي انفعالي غير رصين تجاه تركيا، لم تتخذ مصر أي قرارات سياسية يمكن أن تكون غير مدروسة أو تكون بمثابة ردة فعل.
كل فعل صدر عن مصر لم يخرج عن القنوات الدبلوماسية الرصينة الهادئة العاقلة، في نفس الوقت ظهرت القوة السياسية عبر اختيار الملف الذي يؤلم والذي يوجع فكان التحرك تجاه تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط في 2019، وبدون أن تكون تركيا عضوا فيه، ولجأت مصر إلى تحالفات رصينة ومدروسة مع إيطاليا واليونان وقبرص، التي تمثل المفتاح الحقيقي للأوروبيين الذين ظلوا طوال الصراع في صف مصر ضد أردوغان.
المصريون حين أحسوا بتجاوز أردوغان للخطوط الحمراء في ليبيا، أعلن الرئيس المصري موقفه الحاسم بأن "سرت والجفرة خط أحمر"، ونفذ ذلك عبر نشر قواته في الحدود المسموح بها.
من كل ما سبق يمكن القول إن السياسة المصرية حقاً كانت تمثل العقلانية السياسية، سياسة الفعل والتأثير وإدارة المحاور الناجحة وتكوين تحالفات قوية، وليست سياسة الشعبوية والانفعال والهتاف وفتح الجبهات غير المدروسة.
في المحصلة، الموقف الأردوغاني الأخير لا بد أن يدرس في إطاره وزمانه باعتباره المخرج الأخير له أو كأس السم الذي تجرعه وهو مجبر عليه.
في السياسة، هذا شيء طبيعي فهي في أبسط تصنيفاتها فن الممكن، وهذا هو الممكن والمتاح لأردوغان على الأقل الآن، أن يخرج من كل أزمات الشرق الأوسط التي لا خروج منها إلا عبر البوابة المصرية، عبر عودة العلاقات مع مصر ومع ما تطلبه مصر من شروط لم يصرح بها وزير الخارجية المصري صراحة وأهمها، تصالح المحاور وليس التصالح بين دولتين.
مصر أدارت خلافها مع أردوغان عبر عدة تحالفات، وبالتالي لن تعيد علاقاتها مع أردوغان إلا عبر نفس التحالفات، فاليونان وقبرص ستكونان حاضرتين في التصالح في اشتراطات من قِبل تركيا بتفكيك التحالفات المصرية معهما أو مع غيرهما فمصر لن تقبل.
الأهم البوابة العربية التي يريد أردوغان الدخول إليها عبر عودة علاقاته مع مصر، خصوصاً السعودية والإمارات وبقية دول الخليج العربي.
لكن السؤال الذي سيظل عالقاً في الأذهان ما الذي غيّر أردوغان أو أجبره على تجرع كأس الرضوخ وهو العثماني والمتكبر؟
من سوء حظ أردوغان أنه ليس سبباً واحداً وإنما الكثير الذي جعله محشورا في زاوية الرضوخ.
التدهور الأخير لليرة التركية يفسر على أن الدعم توقف أو حتى شح، بالتالي ارتفع صوت المعارضة في الداخل التركي وكثرت التساؤلات: ماذا استفاد الأتراك من المواقف العنترية لأردوغان؟
أردوغان فجأة اكتشف أنه حصل على "صفر مربع" في كل المعارك التي خاضها خلال الأعوام السبعة الماضية في ليبيا واليونان وقبرص ومصر ومع الاتحاد الأوروبي وحتى في سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة