كوابيس الموت في "الكرنتينا".. عائلات في انتظار السراب
انفجار بيروت ينهك أهالي منطقة الكارنتينا فبعد أن أفقدهم أغلى ممتلكاتهم لا تزال لحظات الرعب لا تفارق يومياتهم وأذهانهم.
هنا في منطقة الكارنتينا التي أنهك انفجار بيروت أهلها وأفقدهم أغلى ممتلكاتهم لا تزال لحظات الرعب لا تفارق يومياتهم وأذهانهم.
يتلفتون كثيرا ولا يريدون الكلام، وكأن الانفجار مازال هنا وهناك وفي كل زاوية من هذا الحي.
ينظرون إليك بملامح لا يمكن تفسيرها، وكأنهم ينتظرون حياة من قلب موت ما.
من هنا مرّ كل شيء إلى بيروت، كانت هذه الشوارع في حي الكرنتينا الملاصقة لمرفأ بيروت، والأقرب إلى عمليات نقل الشاحنات الكبيرة والصغيرة من والى المرفأ، إنها النقطة السكنية الأقرب والأشد فقرا التي تعرضت لشظايا الانفجار من ضحايا وجرحى ومأسي سنروي بصمت الموت بعضا منها.
قصص الانفجار
هول كارثة الانفجار لا يفارق أحدا منهم، لا حديث فيما بينهم إلا عن تفاصيل اليوم الصاخب، منذ الانفجار الأول إلى قوة الانفجار الثاني الذي وصل تأثيره المميت إلى كل منزل.
تكثر التحليلات وتتعدد الروايات، يبتسمون ولا يجرأون على الضحك، حين تسألهم ماذا حصل، يرفض كثير منهم التحدث.
يكسر أحدهم صمته ويقول لنا بحسرة وغضب مكتوم: "عن ماذا نتحدث، عن ويلاتنا ومصائبنا؟".
رفض كثير منهم الكلام أو حتى السماح بتصوير ما لحق بمنزله أو محاله التجارية، لسبب واحد كما قالوا: "نريد مساعدات وتعويضات وتيسير الحال، الآن قبل أي شيء آخر، لا نريد أن يصل صوتنا إعلاميا فقط إلى الحكومة والمسؤولين ولا نريد وعودا وكلاما، تعبنا، تعبنا كثيرا".
تقطن "أم خالد" في شقة شديدة التواضع، أزالت ما استطاعت من ركام، ألّحينا عليها حتى تسرد لنا من وراء الكاميرا ماذا حصل لها ولعائلتها يوم 4 أغسطس/آب، رغم أنها لا تريد أن تشتكي، لكن ما ينتابها من غضب وقلق منذ ذاك اليوم دفعها للتحدث.
تتحدث عن كابوس، لا بل كوابيس لا تزال تلاحقها حتى الساعة، لا تستطيع النوم مطمئنة، قلقة على كل شيء، من يرمم النفوس، لحظات انفجار أضحت جزءا من حياتها اليومية وأفكارها المترسخة في كل زاوية من منزلها المتداعي، إنه بلا نوافذ، تسأل من يعوض عليها: "عدنا 20 عاما إلى الوراء".
رفضت أن تلقي اللوم على أحد، كل هذا لا ينفعها أو يداوي جزءا من جرحها وجرح ابنتها، تعيد السؤال مرارا: "من يصلح هذه النوافذ الزجاجية، أنبقى هكذا! وإلى متى".
تبكي وتتنهد، وثم تمسح دموعها في زمن المآسي كما تقول، على من تسند نفسها: "في النهاية السند ذاتي وروحي من الإنسان نفسه قبل أي روح أخرى تلاقيها". قالت لنا، ثم عادت تبكي وتعتذر من الجميع ثم من نفسها، وتسأل: ماذا فعلنا، ابنتي تبحث عن عمل، جهاز الكمبيوتر الذي تعمل به تحطم، كيف ستنهي ابنتي عملها وكيف ستمكل دراستها الجامعية".
يريدون ملجأ..كفى ظلما !
الموت مراحل عدة، حين استودعنا "أم خالد"، قالت لنا دون أن نسألها، هنالك عائلة في المبنى المقابل، تعاني وضعا أسوأ منا بكثير.
هي عائلة وليد ضو، أحد العاطلين الجدد عن العمل في لبنان، كان يعمل في المرفأ قبيل كارثة الانفجار، حين دخلنا منزله لم نر سوى صور أهله واولاده المعلقة، يشكر القدر الإلهي الذي حمى أهله وعائلته، جروح طفيفة لكن "الحمد لله" كما يقول.
"لا نزال أحياء، كل شيء سقط في منزله، ما بقي ولم يتحطم جراء قوة الانفجار، أعدنا ترميمه وترتيبه، رغم الجدران المتصدعة، والنوافذ المشرعة على الهواء ولهيب الشمس في آن واحد".
يسألنا عن عمل، لا يدري إلى من يلجأ: "كثر من وسائل إعلامية وجمعيات أهلية و جهات رسمية مرّت من هنا ولم تعد، ولم ترسل أحدا ليبعث فينا أملا ما"، يقول لنا".
المتنقل بين الأزقة الداخلية في حي الكرنتينا، يرى حجم الدمار الذي خلفه الانفجار لكن أهالي المنطقة يحالون تجاوز مأساتهم بمفردهم. سبقوا أي جهة رسمية لتساعدهم، وتعاونوا سويا لرفع الحطام الأكبر.
على مدخل أحد الأبنية الصغيرة، كان يجلس "الحاج محمود مطر"، كما يحب أن نناديه، صلب كالصخر، وعزيمة لا تقهر، حين تسأله ماذا تريدون من الحكومة والمسؤولين في السلطة، يبتسم، ويهز برأسه يمينا شمالا، ثم يقول"هل تعتقد أننا ننتظر شيئا، بالتأكيد لاشيء، فقط سنحاول إغلاق نوافذ منازلنا المهترئة أساسا وتركيب زجاج جديد" ولكن يستدرك ليقول: "أسعار الزجاج والنوافذ مرتفعة جدا والشتاء مقبل، لذلك سنيسر أمورنا بما توفر لنا من امكانات".
يؤكد لنا أن بؤس الحال وضيق الأحوال المعيشية في الحي لم تعد تطاق، متحدثا عن عشرات الشبان العاطلين عن العمل هنا، مؤكدا أن الضرر الذي لحق بالمرفأ وتعليق عمليات الاستيراد والتصدير انعكست مباشرة على الشباب هنا، فأغلبهم يعملون في المرفا و"يسترزقون" منه، أما "الآن فالبلد في اسوأ أحواله، إلى متى، لا جواب لي".
الأحبة هاجروا
يتميز حي الكرنتينا بتعدد الجنسيات التي تقطنه، وفي طبيعة الحال يعانون ذات الهموم ويطالبون بتقديمات هي في النهاية مشتركة فيما بينهم، هدير الشاحنات لا تفارقهم ليل نهار خصوصا مع عمليات رفع الأنقاض بعد الانفجار، وأيضا روائح "مسلخ" اللحوم وسوق السمك، فهي تكاد لا تنقطع عن هواء هذه المنطقة.
ينتظر الجميع في الحي وصول جهة رسمية، لمسح الأضرار وتعداد وتسجيل ما لحق بهم من أضرار، يتحسرون على الضحايا ويتذكرون حين ما يجلسون مع الجرحى مأساة يوم الانفجار، لا يطالبون كثيرا ولا يأملون بمساعدات ستقلب حياتهم، لعلّ ما يريدونه فقط، كما أكدوا، العودة إلى ما قبل اليوم المشؤوم لجهة أعمالهم، ومنازلهم دون ضرر، أمل بعودة قد يتحقق جزء صغير فقط، لأن التاريخ لا يرحم، خصوصا في هذه البلاد، لبنان.
aXA6IDE4LjIxOC4zOC42NyA= جزيرة ام اند امز