في الفيلم الرائع "الرمادي The Grey"، تتعرّض طائرة تحمل عدداً من عمال حقول النفط وقناصاً محترفاً "لعب دوره ليام نيسن"، كان متخصصاً بقتل الذئاب الرمادية الشرسة، لخلل تسقط معه في إحدى المناطق الثلجية بألاسكا.
ويتفاجأ الناجون بهجمات متعددة ومتكررة من الذئاب ويقررون مغادرة موقع حطام الطائرة طلباً للنجاة، وطيلة طريق الهروب كانت الهجمات المفاجئة تأخذ الرجال واحداً تلو الآخر، ولم يتبق في النهاية لسبب غريب إلا القنّاص المحترف، والذي وجد نفسه بعد رحلة هروب طويلة ومعقدة، ظنّ نفسه بعدها أنه تخلّص من مطارديه، أنّه تم استدراجه بتخطيط لم يتوقعه إلى وكر الذئاب الرمادية الرئيسي، ليلتقي في نزال ثأري مع الذئب الأكبر انتقاماً لما قتله القناص في السابق!
قد لا أكون وحيداً، فكثير من النتاج السينمائي الغربي ينقل حرفياً النفسية والذهنية التي يحملها قطاع كبير من متخذي القرار وصُنّاعه في هذا العالم الرأسمالي، ولا أستبق الأحداث، فعلمها عند الله وحده، لكن أدهشني ما رأيته من عقوبات و"كمائن" اقتصادية لم تكن متوقعة بقيادة أمريكا وبريطانيا وأتباعهم من صغار الغرب وكباره، والتي يبدو أن التخطيط لها كان منذ زمن بعيد وطُبِخ على نار هادئة لاستدراج واستنزاف الدب الروسي، ومن بعده إيجاد أي مسوّغ لكشف كمائن أخرى، للإيقاع بالتنين الصيني، فأمريكا تعلم أن وجودها كقطب أوحد للعالم معرض لخطر القوة العسكرية لروسيا بوتين، ولخطر التفوق الاقتصادي المرعب للصين، والذي يبدو أنه قاب قوسين أو أدني من تسنّمه عرش أكبر اقتصاد عالمي !
هل سيخرج بوتين منتصراً أم مهزوماً من أوكرانيا ؟ لا أعلم بصراحة، ولكن ما أراه هو تجهيز لمذبح كبير للدب الروسي، وجزّاروه غير متسرّعين، مما يوحي بأنهم يعرفون جيداً ماذا يفعلون، فالعقوبات التي فرضت على روسيا من كل مكان، وبكل مجال حتى مجالات الكرة والمطاعم والفن وعروض الباليه توضح أنّ تركيعها خيار وحيد للغرب الرأسمالي، وما تصريح المالية الروسية بأن البلاد ليس بمقدورها سداد الديون المستحقة في الفترة الحالية إلا مظهر من مظاهر النزيف، فنصف الاحتياطات الأجنبية لروسيا، والتي تقارب 315 مليار دولار قد تم تجميدها من قبل العم سام، فهي فعلاً تملك المال لكنها لا تستطيع الوصول إليه !
بصرف النظر عن كون حرب بوتين اعتداء أم حرباً وقائية، فإن أزمة أوكرانيا تبيّن أن العقيدة الاستعمارية الميكافيلية للغرب متجذرة حتى النخاع لدى "كافة" نُخبه السياسية، وأنّ الغرب لا يمكن أن ينسى الماضي لأنه يعيش بعقيدة وفكر ونزق ماضيه الاستعماري بنفسه، فرغم كون روسيا بوتين رأسمالية النزعة إلا أن التوجّس من عودة حلم الإمبراطورية السابق، وإحياء موروثها الشيوعي يبدو أحد أقوى محركات الغرب للإيقاع بها سريعاً، فضلاً عن موقف بوتين الرافض لمشروع الانسلاخ الأخلاقي التام الذي يقوده الغرب، وبدا أنه يتمرّد عن المسار المطلوب قيادة البشرية إليه.
جانب آخر لافت للنظر وهو تكميم كل الأفواه من روسيا أو تلك التي تحاول نقل وجهة النظر الروسية من كل منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي طالما ادّعوا أنها للبشر العاديين ولا وصاية حكومية عليها، وسقطت معها أكذوبة حريّة التعبير عن الرأي وكونها مكفولة للجميع، فهي متاحة للجميع ما دام ذلك في صالح الغرب فقط، ولا أخال أحداً نسي ما حدث لجوليان أسانغ وإدوارد سنودين وغيرهما ممن كشف مؤامرات أمريكا تحديداً ورفاقها وحروبها، التي تنشر الشر في كل مكان وتحيك الدسائس بكل زمان، فالأول متهم بالتواصل مع العدو و"معاداة السامية"، والثاني متّهم بالجاسوسية بعد أن كشف فضائح وكالة الأمن القومي وتحالف مخابرات العيون الخمس Five Eyes، أما الصحفي مايكل هاستينغز، الذي تهكم على الحرب في أفغانستان فقال ساخراً من فشل سياسة الصدمة والرعب والحروب النفسية على ذلك البلد: "هؤلاء الأفغان لا يشاهدون التلفاز ولا يعرفون شيئاً عن أفلام "رامبو" و"جيمس بوند"، ولهذا فهم لا يخافوننا»، فقد تم التخلص منه في حادث سيارة غريب!
البشر يعيشون في أرض عراء دون حواجز حقيقية و دون أسوار، وعلى من يرى خلاف ذلك أن ينظر للأمر من جديد، فالغرب وتحديداً الولايات المتحدة تُقدّم نفسها من جديد كقطب أوحد للعالم، ومن لا يسير في ركابها ستقوم بتركيعه بأشد الطرق وجعاً وأطولها أمداً، والشعوب التي لا تتعاون في ما بينها قبل أن تعبث بها أصابع العم سام، مهما ظنّت ونفسها أنها "تمشي بجنب الحيط" سيأتي دورها، فلا راعي سوى الذئب، وهو لا يلتهم القطيع مرة واحدة!
نقلا عن البيان الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة