لا شك أن الأولوية اليوم للأوكرانيين في اللجوء إلى المملكة المتحدة.
كل الجنسيات الأخرى عليها الانتظار، مهما استدعت الحاجة، أو كانت الظروف قاسية.
قد ينطوي الأمر على جانب سياسي، بمعنى أنه يأتي في سياق الرد الغربي على العملية العسكرية الروسية هناك، ولكن التعاطف البريطاني الشعبي مع الأوكرانيين يضع الحكومة أمام ضغوط متزايدة لجعل هذا الملف على رأس اهتماماتها.
إنْ كنت من غير الأوكرانيين ووصلتَ إلى بريطانيا كلاجئ، فعليك الانتظار بفندق شعبي أو مسكن مؤقت، وربما على قارعة الطريق.. فالجميع هنا منشغل بتوفير الإقامة للوافدين الجدد، أو الذين سيأتون لاحقا بتعبير أدق.
الأبواب مفتوحة أمام الأوكرانيين والحكومة ستتعامل معهم "بمنتهى الكرم"، كما يقول رئيس الوزراء بوريس جونسون، ولكن لا بد أولا من وجود قريب لهم يعيش في بريطانيا، وثانيا يتوجب عليهم الحصول على تأشيرة دخول تؤكد أنهم "لا يعملون لصالح روسيا"، أو "يهددون أمن البلاد" بأي شكل كان.
اللاجئون الأوكرانيون يتوافدون ببطء شديد إلى بريطانيا، صحيح أنهم "يفضلون الأماكن القريبة لبلادهم لعلهم يعودون إلى وطنهم بسرعة بعدما تنتهي الحرب"، كما قال السفير الأوكراني في لندن.. ولكن ذلك لا يخفي حقيقة أن الحكومة البريطانية لم تتعامل بمرونة مع هذه المسألة تحديدا، وتأخرت عن بقية الدول الأوروبية فيها.
منذ اليوم الأول للنزاع الروسي-الأوكراني والانتقادات تنهال على الحكومة البريطانية من الداخل والخارج بسبب اللاجئين.. فالترحيب بالفارّين سرعان ما يكشف زيفه عندما تتحدث الأرقام عن أعداد من وصلوا فعلا.
الحكومة البريطانية اشترطت في البداية فحصا أمنيا على كل أوكراني يرغب فيالانضمام إلى قريب له يعيش في بريطانيا.. وعندما انتقدت المعارضة بطء عمل مراكز التسجيل لهؤلاء في الدول الأوروبية، أطلقت الحكومة برنامجا إلكترونيا لهذا الغرض، ولكنها لم تُلغِ الفحص الأمني الذي استنكرته المعارضة أيضا.
التذمر من "التراخي" الحكومي في ملف اللاجئين الأوكرانيين، جعل ثالث أكبر أحزاب البرلمان، الحزب الليبرالي الديمقراطي، يطالب بمعاقبة وزيرة الداخلية، بريتي باتيل.. ولكن رئيس الوزراء دافع عن الوزيرة وحكومته، وقال إن أرقام هؤلاء اللاجئين ستزداد في أيام قليلة، ولكن ذلك لم يحدث حتى بعدما هرب ثلاثة ملايين أوكراني من بلادهم.
استقبال آلاف عدة لا يعني أن الأذرع مفتوحة.. ولأن الحكومة تدرك ذلك سمحت لسكان المملكة المتحدة باستقبال اللاجئين في بيوتهم.. وخلال أربع وعشرين ساعة فقط تقدم 120 ألف بريطاني بطلب لاستضافة فرد أو عائلة من أوكرانيا.
الحكومة تقول إنها ستقدم للمستضيف أكثر من 400 دولار شهريا مقابل كل أوكراني يستقبله في بيته.. كما ستقدم للأوكرانيين أنفسهم دعما ماليا ومساعدة في الحصول على العمل والخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، ولكن يبدو أن الأمر ليس بهذه السهولة، بالنسبة للحكومة والأفراد على حد سواء.
ثمة كثير من الأسئلة تتفجر في وسائل الإعلام المحلية منذ الإعلان عن برنامج استضافة اللاجئين الأوكرانيين.. ليس فقط حول جاهزية الحكومة لتطبيقه على كل المستويات، وإنما أيضا حول طبيعة تداعياته على البريطانيين والأوكرانيين، الذين سيجدون أنفسهم بين ليلة وضحاها، يعيشون مع غرباء لم يلتقوهم ولم يعرفوهم من قبل.
إنْ أخفقت الحكومة في تعويض المستضيفين، أو تأخرت في مساعدة اللاجئين ماديا وخدميا، فإن الأمرين سيقودان إلى مشكلات كبيرة في المجتمع.. وإنْ تفاقمت هذه المشكلات لن يكون بوسع الحكومة ترحيل اللاجئين أو إعادتهم إلى وطنهم، وجُل ما يمكن فعله هو إيجاد مساكن لهم كي يستقلوا عن البريطانيين ويرعوا شؤونهم بأنفسهم.
توفير السكن معضلة لم تحلها الحكومة بعد للاجئين الأفغان، الذين وصلوا إلى المملكة المتحدة منذ أشهر طويلة.. فكثيرون منهم لا يزالون يعيشون في فنادق رخيصة، أو يقيمون في مساكن تجمع عددا كبيرا من اللاجئين.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن بريطانيا استضافت آلافا فقط من اللاجئين الأفغان، الذين فروا من أفغانستان بعد الاسنحاب الأمريكي.
ليس السكن فقط هو ما قد يستعصي على الحكومة توفيره بسرعة للاجئين الأوكرانيين.. فرص العمل أيضا لن تكون متوافرة كثيرا أمام هؤلاء الذين لا يتحدثون الإنجليزية.. التعليم للأطفال كذلك سيكون صعبا، خاصة في المدن التي تضيق حتى على أبناء المواطنين أنفسهم.. ناهيك بخدمات الصحة، التي ينتظر بعضها البريطانيون بطوابير قد تمتد لعام كامل أو أكثر في بعض الأمراض، خاصة بعد أزمة كورونا.
نواب في البرلمان البريطاني حذروا أيضا من احتمال استغلال اللاجئين بأشكال مختلفة تخالف حقوق الإنسان وحريته.. وآخرون نبَّهوا إلى احتمال وقوع جرائم بسبب أو من خلال اللاجئين، فالنتيجة واحدة والمتضرر هو أمن بريطانيا.
المفارقة أن نواب البرلمان البريطاني، الذين يحثون الحكومة على بذل مزيد من الجهود لاستضافة الأوكرانيين، هم أنفسهم الذين يحذرونها من نظرية "الأبواب المفتوحة" أمام لاجئي البلد الأوروبي.. والمفارقة أيضا، أن النواب ينظرون هذه الفترة في قانون جديد للاجئين "يجرّم" دخول البلاد بشكل غير قانوني، وإقرار هذا القانون الآن قد يعيق استقبال كثير من الأوكرانيين، الذين قد يصلون دون تأشيرة دخول.. وفي تفاصيل القانون الجديد كثير من المطبات، التي يمكن أن تعيق استضافة الأوكرانيين على المدى الطويل.
ربما هو عامل الوقت ما تراهن عليه الحكومة البريطانية.. لعلها تتوقع أن تنتهي الأزمة الأوكرانية قبل أن تضطر لإجراء تغيير جذري في سياساتها للعام الجاري والمقبل.. خاصة أنها كانت تعتزم زيادة الضرائب ورفع الأسعار مع مطلع شهر أبريل المقبل.
كثيرة هي التقديرات العسكرية والاستخباراتية التي تتوقع انتهاء الأزمة خلال بضعة أشهر، ولكن مَن قال إن إعادة إعمار أوكرانيا ستنتهي بسرعة، وتلك المنازل والمدارس والمستشفيات كم ستحتاج من الوقت لتعود إلى الحياة من جديد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة