الدكتور النعيمي يقدم لنا طرحا عقلانيا جديرا بالتأمل والتفكر يدور حول دولة المواطنة وما يسميه دولة التعاقد القانوني بين الإنسان والدولة.
لعقود طوال عاش العالم العربي بنوع خاص في أسر ثنائية تبحث عن المصير، وخلال سبعة عقود أو أزيد قليلا هي عمر التحرر العربي من رقبة الاستعمار الأجنبي، تشارعت وتنازعت فكرة القومية العربية، مع تيار الإسلاموية إن جاز التعبير، وبينهما دخلت الأوطان في حالة من حالات الانسداد التاريخي، والذي تبينت آثاره الكارثية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من خلال ظواهر ومظاهر الربيع العربي المغشوش، والذي لم يكن إلا ضربا من ضروب الشتاء الأصولي القارس والقاتل دفعة واحدة.
مئة عام منذ سنوات التحرر العربي من نير العثمانيين القدامى، وقبل أن يحاول الأغا الأردوغاني الموتور إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ولا يزال سؤال الأمير شكيب إرسلان يتردد صداه في الأرجاء "لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟".
والشاهد أن غيرهم هؤلاء عادة ما يقصد بهم الغرب، وهنا كان ولا يزال السؤال كيف استطاع هذا الغرب النهوض، وخلفنا من ورائه نبدأ من المربع رقم واحد مرة جديدة، هل لديهم حجر الفلاسفة ونحن عدمناه، أم أن مأساة العرب لا تزال تدور في ملهاة العودة إلى تراثية التراث، والبكاء على ماضوية الماضية، والتعلق بأهداب عصور السيكولائية الاجترارية؟
المؤكد أن الغرب لا يمتلك الوصفة التي تجيب عن تحديات العولمة، والتاريخ لم يصل إلى نهايته، والبشرية لم تعثر على نقطة السكون في النظام الغربي، ومع ذلك فإن الغرب وإن كان لا يمتلك حجر الفلاسفة، إلا أن مجتمعاته المفتوحة تقدم عالميا الشروط النهضوية المثلى للمضي قدما في البحث، عبر منظومة من الآليات التي تدعم وتزخم الدولة الويستفالية الحديثة، وفي المقدمة منها العدالة والمساواة والإخاء.
يلفت الدكتور علي النعيمي أنظارنا للمنظومة القيمية النهضوية الحقيقية، تلك التي تجاهلناها عبر قرن من الزمان عربيا وإسلاميا، ولهذا كان من الطبيعي جدا أن نراكم النكبات وتتحول دعوات التبشير بالنهضة إلى بكائيات على الأطلال والمظلوميات التاريخية، وأن يصار التنوير إلى إظلام وعتم قاتلين.
والشاهد أنهم قليلون في عالمنا العربي الذين يتجرأون على طرح الأسئلة العميقة، لا سيما ضمن صفوف النخبة النهضوية الحقيقية. وقد جاء كتاب المفكر والأكاديمي الإماراتي، المثقف العضوي الكبير الدكتور علي النعيمي عن "الدولة الوطنية وصناعة النهوض"، ليشاغب العقل العربي الذي تكلس من فعل القلق الحياتي في النهار، والأرق العقلي في الليل، وهو كتاب يدفعنا لتساؤلات جمة وعديدة انطلاقا من أنه غالبا ما يكون السؤال الجيد أكثر إفادة من الإجابة الناقصة، فالأسئلة عكس الإجابات، لا تصر على رأي بعينه، بل ترشدنا إلى الاتجاه الذي ينبغي أن نبحث فيه.
ما الذي يحتاج إليه عالمنا العربي لترسيخ جذور ومفاهيم الدولة الوطنية؟
الدكتور النعيمي يقدم لنا طرحا عقلانيا جديرا بالتأمل والتفكر، يدور حول دولة المواطنة، وما يسميه دولة التعاقد القانوني بين الإنسان والدولة، الدولة التي تخدم مواطنيها وتحقق طموحاتهم بغض النظر عن خلفياتهم، الدولة التي تحكم بالقانون، وتعامل الجميع سواسية أمام القانون.
دولة الدكتور النعيمي هي دولة التعددية كمصدر قوة لها، والتعايش فيها منطلق إلهام لمن يعيشون على أراضيها، إنها ليست دولة قوم أو عرق بعينه، أو دولة عنصر بشري متعالٍ على الآخرين؛ فهي دولة المواطنة وحكم القانون، وليست دولة القومية والعنصرية.
القارئ المحقق والمدقق لأطروحة الدكتور النعيمي للنهضة يكاد يصغي إلى رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لما أشار إليه الفيلسوف والكاتب الفرنسي الأشهر "جان جاك روسو"، في عمله العمدة "العقد الاجتماعي"، من أن "المشكلة هي إيجاد نوع من المجتمعات التي يمكن أن تحمي وتدافع بالقوة الجماعية عن الأفراد والممتلكات لكل المجتمع، فيكون فيها الفرد محميا مع الباقين، وتمكنه أيضا من أن يطيع نفسه ومع ذلك يبقى حرا؛ فالمصلحة الجماعية هي الأساس من خلال ركيزة المواطنة".
فكرة المواطنة في واقع الحال طريق جذري للنهوض من دون أيديولوجيات منحولة أو دوجمائيات ظلامية؛ فالمجتمع يبنى من القاع للقمة، ووحدة بنائه هي المواطن وليست شيئا آخر.
صفحات كتاب الدكتور النعيمي ومنطلقاته الفكرية تقودنا إلى القطع بأن خلاص العرب في دولة ناهضة بازغة حديثة، يحكمها مبدأ سيادة القانون ولا يجوز لأحد الخروج عليه، كما تتيح الفرصة لازدهار الشخصية الإنسانية بعقلانية، بمعنى أن الخطط الاقتصادية والسياسية والثقافية فيها لابد أن تخضع لسلطان العقل وليس لسلطان النص الديني، أيا كان هذا النص أو الدين.
يُفاجأ قارئ هذا العمل الجميل بنوع من أنواع أدب الاعترافات إن جاز التعبير؛ فكما سطر "أوغسطينوس" في "الاعترافات"، قصص الزمان المؤلم التي عاشها، لا يجد النعيمي حرجا أن يخبرنا عن مرحلة تأثره بالتيارات الإسلاموية، في مقتبل شبابه، مدفوعا بعاطفة نبيلة تبغي الخلاص للأمة، غير أن الذين يعملون العقل في النقل، كما فعل صاحب الكتاب، يتبين لهم لاحقا مقدار الزيف العميق الذي يظلل حال ومآل تلك الجماعات، ويضحون لاحقا الأقدر والأجدر في نقد تلك المنظومة الاتباعية المهلكة، والأنفع والأرفع في رفع الصوت محذرين من تبعاتها؛ الأمر الذي يفرد له الفصل الرابع من كتابه تحت عنوان "الإخوان الخطيئة الكبرى".
لا دولة ناهضة صاعدة في أعلى عليين من غير تعليم خلاق مبدع، تعليم إبداعي وليس اتباعيا، وهذا هو فصل الكتاب الأخير، ومن يقرؤه يدرك أن الدكتور النعيمي قد قرأ بعناية بالغة، وتفهم بمهارة فائقة ما قاله المعلم الأوروبي الدومنيكاني الأشهر "توما الأكويني" صاحب "الموسوعة اللاهوتية" عابرة الزمن من أن "التعليم ليس أن نملأ عقول التلاميذ بأحداث معينة، بل أن نعزز ميلهم الإنساني العميق للحقيقة، وأن نرافقهم في هذا البحث".
دولة الدكتور النعيمي الوطنية هي مفتاح النهوض والتنمية والتقدم بحسب ما خطه، ومن دونها ينهار المجتمع وتدخل الدول في دوامات من العنف لا نهاية لها.
والنهضة عنده انحياز للمستقبل، والتماس لروح العصر، وتغليب العقلانية على الخرافة، وتحديد الموقع والموضع من الآخر.. النهضة ليست حفلة تنكرية يمشي فيها الغراب مشية الطاووس فيصير مثله، بل مجتمع أساساته الوعي والمواطنة، ويعلي قوائمه الجهد والإصرار والجد، ويدفع تطوره الانحياز غير المشروط للمستقبل.
يلفت الدكتور النعيمي أنظارنا للمنظومة القيمية النهضوية الحقيقية، تلك التي تجاهلناها عبر قرن من الزمان عربيا وإسلاميا، ولهذا كان من الطبيعي جدا أن نراكم النكبات وتتحول دعوات التبشير بالنهضة إلى بكائيات على الأطلال والمظلوميات التاريخية، وأن يصار التنوير إلى إظلام وعتم قاتلين.
ختاما هل يتوجب علينا أن نهنئ الدكتور النعيمي على عمله الرائع هذا؟
ربما يكون ذلك حق الرجل علينا، لكن التهنئة الحقيقية هي لكل من يقرأ سطور هذا الكتاب ويسعى لجعله واقعا مقيما، وطريقا مضيئا لعالمنا العربي أن شئنا نهضة حقيقية غير أبوكريفية أمس واليوم وغدا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة