التطورات السالف الإشارة إليها أدت إلى سيادة حالة من اللايقين حول مستقبل النشاط الاقتصادي في الكثير من دول العالم
تتردد أسواق النفط العالمية منذ فترة بين حالتي التشاؤم والتفاؤل بشأن مدى استقرار الأسواق ومستقبل الأسعار، ويغذي هاتين الحالتين عدد من التطورات السلبية والإيجابية التي تؤدي إلى توفر مناخ من عدم اليقين بشأن المستقبل.
وفي جانب التطورات السلبية تعد حرب التجارة بين الولايات المتحدة والصين بما يترتب عليها من انخفاض حجم التجارة العالمية وميل النشاط الاقتصادي في أغلب أنحاء العالم للتباطؤ، والخشية المتزايدة من حدوث ركود اقتصادي عالمي، وراء التشاؤم المتزايد في سوق النفط العالمي. فتباطؤ النشاط أو الركود سوف يترتب عليهما بالضرورة انخفاض في الطلب على النفط، وهو ما يدفع أسعار برميل النفط نحو الانخفاض. وهناك العديد من الجهات التي راجعت تقديراتها لمستوى الطلب على النفط مؤخرا، منها وكالة الطاقة الدولية، ومنظمة الأوبك، والعديد من بنوك الاستثمار حول العالم. وأحدث التقديرات هي تلك التي ذكرها بنك "جولدمان ساكس"، حيث خفض نمو الطلب على النفط في 2019 عازيا ذلك إلى تقلص الطلب من الهند واليابان ومناطق آسيوية أخرى من خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. وراجع البنك توقعاته بالخفض إلى مليون برميل يوميا من 1.1 مليون برميل يوميا. وهناك جهات أخرى خفضت توقعاتها إلى نحو 800 ألف برميل يوميا فقط، بحيث تدور أغلب التوقعات بين 0.8 مليون برميل ومليون برميل يوميا، هذا مقابل التوقعات التي كانت سائدة في بداية هذا العام والتي كانت تدور حول 1.3 مليون برميل يوميا كمتوسط لنمو الطلب.
التطورات السالف الإشارة إليها أدت إلى سيادة حالة من اللايقين حول مستقبل النشاط الاقتصادي في الكثير من دول العالم، كما أدت إلى أن يخيم مناخ من التشاؤم حول المستقبل الاقتصادي القريب مما أثر سلبا على الطلب على النفط، وهو ما يظل عاملا بين حين وآخر على انخفاض سعر برميل النفط.
والواقع أن قوة تأثر النشاط الاقتصادي بحرب التجارة باتت ملموسة على نحو أخص في الاقتصادات الكبرى وآخر التطورات في هذا الصدد ما شهدته الصين، حيث حدث انخفاض غير متوقع في الصادرات الصينية خلال شهر أغسطس/آب الماضي، وهو ما تعتبره وكالة "بلومبرج" أوضح إشارة إلى أن الأسوأ في أضرار حرب التجارة لم يحدث بعد.
ومن المنتظر أن تتقلص صادرات الصين أكثر مع تطبيق الولايات المتحدة للتعريفة الجمركية الجديدة ومع بقاء الطلب على السلع الصينية معتدلا. ويضاعف من أثر الانخفاض ما تشير إليه "بلومبرج" من أن بعض التجار الأمريكيين يزيدون طلبهم في الآونة الراهنة من بعض السلع استباقا لفرض تعريفات جمركية مرتفعة عليها بحلول منتصف ديسمبر/كانون الأول المقبل، لذا فالصادرات من هذه السلع ستشهد انخفاضا واضحا بعد هذا التاريخ.
وقد هبطت قيمة الصادرات الصينية مقومة بالدولار خلال شهر أغسطس/آب بمقدار 1% مقارنة بمستواها قبل عام، بينما انخفضت الواردات الصينية بمقدار 5.6% وبلغ الفائض التجاري 34.8 مليار دولار. وكانت توقعات الاقتصاديين هي نمو الصادرات بمقدار 2.2% وانخفاض الواردات بمقدار 6.4.%
وإلى جانب حرب التجارة الصينية الأمريكية هناك بعض الأحداث العالمية الأخرى التي تزيد من وطأة عدم اليقين والتباطؤ، مثل قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما إذا كانت ستخرج باتفاق أم دون اتفاق، وهي قضية تضاعف من الآلام الاقتصادية في منطقة اليورو خاصة في الاقتصاد الألماني الأكبر في المنطقة، حيث من المتوقع أن تشهد ألمانيا ركودا فعليا نهاية هذا الربع من السنة، حيث يعرف الركود الاقتصادي على أنه انخفاض معدلات النمو الاقتصادي لربعين سنويين متتاليين.
وهناك أيضا الخلافات السياسية- الاقتصادية بين اليابان وكوريا الجنوبية التي انتقل تركيزها الأكبر إلى التجارة والتأثير سلبا، خاصة في النشاط الصناعي بكوريا الجنوبية.
التطورات السالف الإشارة إليها أدت إلى سيادة حالة من اللايقين حول مستقبل النشاط الاقتصادي في الكثير من دول العالم، كما أدت إلى أن يخيم مناخ من التشاؤم حول المستقبل الاقتصادي القريب مما أثر سلبا على طلب النفط، وهو ما يظل عاملا بين حين وآخر على انخفاض سعر برميل النفط. والكثير من التوقعات الآن هي في صالح انخفاض أسعار النفط هذا العام والعام القادم أيضا.
أما على الجانب الإيجابي، فمن بين العوامل التي عملت على تماسك السوق مؤخرا موجة من التصريحات من أقطاب تحالف أوبك+ التي صدرت على هامش مؤتمر الطاقة العالمي الرابع والعشرين المنعقد بأبوظبي، وكذلك التعليقات التي صدرت بمناسبة تعيين الأمير عبد العزيز بن سلمان وزيرا للطاقة في المملكة العربية السعودية يوم الأحد الماضي.
إذ قال وزير الطاقة والصناعة الإماراتي سهيل المزروعي يوم الأحد "إن المنتجين من أوبك وخارجها ملتزمون بتحقيق التوازن في سوق النفط"، وذلك عندما سُئل عن تخفيضات أعمق محتملة على مستويات الإنتاج. وأضاف "أنه غير قلق بشأن أسعار النفط الحالية، بل بشأن مستوى مخزونات الخام"، وأضاف "أن العوامل السياسية وبواعث القلق المتعلقة بتوترات التجارة العالمية هي التي تؤثر على السوق وليس مستويات العرض والطلب". وأعاد الوزير تأكيده على أن "اتفاق التعاون بين أوبك والمنتجين المستقلين لخفض إمدادات النفط مستمر، وأن بلاده لا تخطط لترك الاتفاق".
وتكتسب هذه التصريحات أهميتها من ملاحظة بعض التواني في التمسك باتفاق خفض الإنتاج من قبل بعض الأعضاء خارج وداخل الأوبك. فقد ارتفع إنتاج أوبك النفطي في أغسطس/آب لأول مرة هذا العام نتيجة زيادة الإنتاج من العراق ونيجيريا التي طغت على تخفيضات السعودية والفاقد في إيران بسبب العقوبات، بحسب مسح لوكالة "رويترز". وكان وزير النفط العراقي قد ذكر يوم الاثنين أن بلاده ملتزمة بالامتثال لتخفيضات إنتاج النفط بموجب الاتفاق الذي تقوده أوبك لتقليص الإمدادات، مضيفا أن مستويات إنتاج بلاده حاليا تبلغ 4.6 مليون برميل يوميا. هذا بينما يقدر أن إنتاج العراق زاد خلال الصيف عن 4.7 مليون برميل يوميا مقابل حصة محددة له في اتفاق خفض الإنتاج تبلغ 4.5 مليون برميل يوميا. وذكرت مصادر عراقية أن البلاد ستلتزم بحصتها لاسيما خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول، وذلك لوجود خطط لصيانة المصافي ولانخفاض الطلب المحلي بسبب انتهاء فصل الصيف، حيث تدفع شدة الحرارة إلى زيادة كبيرة في استهلاك الكهرباء. وفي نفس هذا السياق، ذكر وزير النفط النيجيري أن بلاده ستمتثل لما تطلبه منها منظمة الأوبك.
وزاد الإنتاج الروسي ليبلغ 11.3 مليون برميل يوميا خلال شهر أغسطس/آب، بينما الحصة المحددة لا تزيد على 11.18 مليون برميل يوميا، ووعد وزير الطاقة الروسي بالعودة للامتثال بالحصة خلال الفترة المقبلة.
إلى جانب هذا، قال وزير الطاقة السعودي الجديد الأمير عبد العزيز بن سلمان يوم الاثنين "إن الرياض ملتزمة بالعمل مع المنتجين الآخرين داخل أوبك وخارجها من أجل تحقيق توازن في أسواق النفط العالمية". كما صدرت تأكيدات من روسيا على التزامها باستمرار التعاون مع أوبك والمملكة السعودية في سبيل العمل على استقرار أسواق النفط العالمية بعد تعيين الأمير عبد العزيز، خاصة أن الأمير كان واحدا من صناع اتفاق خفض الإنتاج في إطار تحالف أوبك+ باعتباره عضوا بارزا في وفد بلاده لمنظمة الأوبك منذ وقت طويل.
جملة هذه التصريحات على هامش مؤتمر الطاقة وتعيين الأمير عبد العزيز مهمة في إعادة التأكيد على الالتزام باتفاق خفض الإنتاج، بل إن البعض يراهن على أن هناك تفكيرا في زيادة مستوى خفض الإنتاج حتى يتم التوصل إلى استقرار أكبر وأسرع في الأسواق العالمية، أو يتم تمديد العمل بقرار خطة خفض الإنتاج الحالية لما بعد مارس/أذار المقبل.
إلى جانب ذلك ينبغي أن نشير إلى ردود الفعل في العديد من دول العالم على مخاوف التباطؤ والركود، حيث بات الكثيرون يؤكدون أن البنوك المركزية خاصة البنك المركزي الأوروبي سيخفض أسعار الفائدة، وهو أيضا ما سوف يتجه له مجلس الاحتياطي الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي)، وحيث ستصبح سياسة التيسير النقدي هي عنوان عمل العديد من البنوك المركزية حول العالم. أضف إلى هذا إقدام البنك المركزي الصيني مؤخرا على خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي الذي تحتفظ به البنوك لدى البنك المركزي، مما يوفر المزيد من السيولة النقدية، ويعمل على مقاومة ميل الاقتصاد نحو تسجيل معدلات نمو متباطئة. ومن شأن تعزيز مثل هذه الاستجابات أن تعمل على مقاومة تباطؤ النشاط، ونفي احتمالات تحقق ركود اقتصادي، وتعمل بالتالي على دعم الطلب على النفط، وتحقيق المزيد من التوازن في الأسواق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة