ما يزال الترقب هو سيد الموقف في سوق النفط العالمي، وما زلنا نرى محاولات لتفسيرات أية تطورات يشهدها السوق في اتجاه يحقق مصالح المضاربين.
ما يزال الترقب هو سيد الموقف في سوق النفط العالمي، وما زلنا نرى محاولات لتفسيرات أية تطورات يشهدها السوق في اتجاه يحقق مصالح المضاربين، سواء على ارتفاع أو انخفاض الأسعار، والواقع أن كثيرا من هذه التفسيرات تعد متعسفة بشكل واضح، ويبقى الترقب الحقيقي لمدى انعكاس عودة فرض العقوبات الأمريكية على صادرات النفط الإيراني، حيث المهم بالفعل هو كمية النفط الإيراني التي ستغيب عن السوق قبيل وإثر تطبيق العقوبات بعد الرابع من نوفمبر القادم، إلا أن هذا لا يمنع العديد من المتعاملين في سوق النفط العالمي من محاولة النفخ في دخان زيادة الأسعار علها تصبح نارا، أو على العكس محاولة إخماد هذا الدخان للعمل على بقاء الأسعار على ما هي عليه، أو حتى تنخفض عن مستواها الراهن.
الأرجح إذن أن الأسعار لن تميل للارتفاع كثيرا خلال الفترة المقبلة، وسيظل ما هو موضع ترقب هو حجم الانخفاض الحادث بالفعل في الصادرات الإيرانية نتيجة العقوبات الأمريكية في نوفمبر المقبل
وربما كان أفضل توضيح لهذه الحالة التي تعيشها سوق النفط العالمي هو الارتفاع الكبير في مستوى سعر برميل النفط من نوع برنت خلال الأسبوع الحالي، حتى سجل يوم الأربعاء الماضي 12 سبتمبر أثناء جلسة التداول 80 دولارا للبرميل، ويغلق سعر التسوية على 79.74 دولار، وهو مستوى لم يتم تسجيله منذ 22 مايو الماضي، ويبقى سعر التسوية هذا هو ثالث أعلى سعر يومي للبرميل منذ بداية هذا العام، بعد أن سجل الخام 80.09 دولارا يوم 17 مايو ثم سجل 80.42 دولارا يوم 22 مايو.
والأهم في سياق ما نتحدث حوله هو محاولة نسبة هذا الارتفاع إلى السحب الكبير من المخزون الأمريكي التجاري من النفط الخام، حيث أوضح "تقرير حالة البترول الأسبوعي" الذي تصدره إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، والصادر يوم الأربعاء الماضي انخفاض هذا المخزون بمقدار 5.3 مليون برميل ليبلغ 396.2 مليون برميل، وهو ما يقل بنحو 3% عن متوسط المخزن خلال الأعوام الخمسة الأخيرة في مثل هذا الوقت من السنة.
لكن هذا التفسير يتجاهل عدة حقائق مهمة، أولها أنه على حين انخفض مخزون النفط التجاري، إلا أن إجمالي المخزون من النفط الخام والمنتجات ارتفع بمقدار 10.1 مليون برميل، نتيجة لزيادة مخزون البنزين بمقدار 1.3 مليون برميل، وزيادة المخزون من زيت الوقود بمقدار 6.2 مليون برميل، وزيادة المخزون من أنواع أخرى من المنتجات.
وما حدث إذن لا يعدو أن يكون عملية إعادة هيكلة بين المخزون والمنتجات، ومع حدوث زيادة في إجمالي المخزون لا انخفاض فيه، وهذه العملية تعد طبيعية نتيجة تخزين كميات كبيرة نسبيا من المنتجات، للاستعداد لموسم الصيانة في الكثير من مصافي التكرير، وهو ما سوف ينجم عنه في الأسابيع المقبلة انخفاض في نسبة استخدام المصافي، والاحتمال الأكبر أن يترافق ذلك مع العودة لزيادة كبيرة نسبيا في المخزون من النفط الخام.
أيضا ما حدث يعد انعكاسا لانخفاض الواردات الأمريكية من النفط الخام خلال الأسبوع الماضي، وهو ما لا يمثل اتجاها عاما، بل الطبيعي هو تفاوت الواردات من أسبوع لآخر طبقا لاحتياجات المصافي، والمرجح هو العودة لزيادة الواردات مرة أخرى خلال الأسابيع المقبلة.
الأمر الآخر المهم هو أنه ربما بداية من شهر أكتوبر المقبل سنشهد زيادة في المخزون التجاري مع طرح الإدارة الأمريكية لكمية قدرها 11 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي للبيع، والهدف من هذا كما سبق وذكرنا في مقالات سابقة هو الحيلولة دون حدوث زيادة كبيرة في أسعار المنتجات في الأسابيع القليلة السابقة على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس.
لكن ربما أهم من كل ما سبق لاستنتاج أن النفخ في رماد انخفاض المخزون التجاري من النفط الخام لن ينجح في إشعال الأسعار، يرجع لتطورات أخرى مهمة في سياسات الدول المنتجة الرئيسية في العالم، فقد أجرى وزير الطاقة الأمريكي محادثات مع نظيره السعودي (السعودية أكبر مصدر للنفط في العالم)، يوم الإثنين الماضي، ثم مع نظيره الروسي (روسيا أكبر منتج عالمي للنفط)، يوم الخميس، من أجل حثهما على رفع الإنتاج قبيل فرض العقوبات الأمريكية على صادرات النفط، ومن الواضح أن استجابة البلدين لزيادة الإنتاج كانت متوفرة حتى قبل عقد هذه اللقاءات.
فقد قال وزير الطاقة الروسي، يوم الأربعاء، في مؤتمر اقتصادي بمدينة "فلاديفوستك" الروسية "إن أسعار النفط الحالية مفيدة للمنتجين والمستهلكين". وأضاف أنه إذا شهدت الأسواق نشاطا محموما وقفزت الأسعار فمن الممكن أن تزيد بعض البلدان الإنتاج، وأنه "بإمكان روسيا أن تزيد الإنتاج بواقع 300 ألف برميل يوميا في المدى المتوسط مقارنة مع مستوى أكتوبر 2016." وقد أنتجت روسيا في الشهر المذكور 11.247 مليون برميل يوميا، وهو أعلى مستوى بعد الحقبة السوفيتية، أي أنها تستطيع الوصول بإنتاجها إلى أكثر من 11.5 مليون برميل يوميا، وكانت روسيا قد رفعت إنتاجها بالفعل منذ يوليو الماضي بمقدار 200 ألف برميل يوميا، وأضحت تنتج الآن نحو 11.21 مليون برميل يوميا في المتوسط.
وهناك أيضا أنباء عن أن السعودية في سبيلها للعودة إلى استعادة حصتها في السوق الآسيوية (السوق الأولى للنفط الإيراني)، فقد طالبت 3 على الأقل من المصافي الكبيرة في شمال آسيا، وهي المنطقة التي تضم بعضا من أهم الدول المستوردة للنفط الإيراني (الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية) بزيادة وارداتها منها. إضافة إلى أن الخام السعودي يتمتع بمزايا تنافسية الآن في هذه المنطقة مع ارتفاع سعر خام برنت، هذا إلى جانب أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة ربما تسفر عن فرض الصين رسوما جمركية أعلى على وارداتها من النفط الخام الأمريكي، بما يجعل تكلفته غير اقتصادية للمصافي المستقلة الصغيرة في الصين، ومن المعروف أن السعودية تمتلك أكبر طاقة إنتاجية فائضة في العالم، تصل على الأقل إلى ما يقرب من 1.5 مليون برميل يوميا.
الأرجح إذن أن الأسعار لن تميل للارتفاع كثيرا خلال الفترة المقبلة، وسيظل ما هو موضع ترقب هو حجم الانخفاض الحادث بالفعل في الصادرات الإيرانية نتيجة العقوبات الأمريكية في نوفمبر المقبل، لكن مع توفر الرضا من قبل المنتجين الرئيسيين في العالم بمستوى الأسعار الراهن، وتوفر القدرة لديهم على ضخ المزيد من النفط في الأسواق خاصة خلال العام القادم، مع توقعات متزايدة بانخفاض الزيادة في مستوى الطلب العالمي خلال 2019 مقارنة بالسنوات الأخيرة، كلها عوامل لا ترشح حدوث أي ارتفاع كبير في أسعار النفط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة