من المعروف لدى الجميع بأن الغرض من أي مفاوضات بين الدول هو تحقيق أهداف معينة.
يفضل الطرف المفاوض ألا يسعى إليها بالقوة، أو يعجز عن ذلك، فيلجأ للحوار.
وقد كان الهدف الأمريكي الرئيسي من المباحثات النووية التي جرت في عام 2015 هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي وحرمانها القدرة على تحويل أنشطة برنامجها النووي إلى أغراض غير سلمية، وكان في حقيبة وفد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى المفاوضات حزمة أهداف أخرى، لعل أهمها تحجيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، ووضع ما يمكن تسميته "مدونة سلوك" تكفل تطويق الجموح الإقليمي لطهران والحد أو التضييق من تغلغلها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
ولو استعرضنا ما جرى نجد أن المفاوضات النووية في نسختها الأولى نجحت جزئياً وبشكل مؤقت في تحقيق الهدف المباشر المتعلق ببرنامج إيران النووي، فيما فشلت بشكل تام وواضح في التصدي لأي من الأهداف الأخرى، فلم تتصدّ من الأساس إلى أسلحة إيران فوق التقليدية، خصوصاً قدراتها الصاروخية متوسطة المدى، ومنظوماتها الباليستية القادرة على حمل رؤوس كيماوية ونووية، وهي تعتبر التهديد الأكبر والأكثر قابلة للاستخدام في المنطقة، كما لم تتناول جولات التفاوض أيًّا من أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وتوظيف وكلاء وحلفاء إيران الداخليين في التأثير على أوضاع بعض الدول العربية وتأجيج النزاعات الداخلية فيها.
ومن باب حسن الظن فإننا نعتقد أن الرئيس أوباما اعتبر أن وقف أو بالأصح "تأجيل" و"إبطاء" أنشطة إيران النووية القابلة للتحول إلى الاستخدام العسكري هو نصر بحد ذاته، على أمل أن تفهم إيران الرسالة الإيجابية التي تعرضها عليها واشنطن وبالتالي تبادر بخطوات إيجابية أخرى، فيكون الاتفاق وما ينجم عنه من رفع للعقوبات وتخفيف للحصار وإتاحة للتعاون الاقتصادي والانفتاح على العالم دافعاً كافياً لكي تتعاطى طهران مع العالم بروح تعاونية وبثقة متبادلة وتعود لتكون دولة طبيعية.
ولكن تبدد هذا التصور الحالم الذي كان يمني أوباما نفسه به على وقع جشع طهران وانهماكها في التهام الحوافز التي قدمها الاتفاق النووي، وسارعت إلى تعظيم كل مكاسب وإيجابيات رفع العقوبات، دون أن تقدم مقابلاً واحداً أو تلبي أيًّا من توقعات أو أحلام أوباما، بل على العكس انقضت على بؤر النزاع والتوتر في المنطقة، وانتقلت من التأثير الناعم والاكتفاء بأدوات سياسية وإعلامية عبر وكلائها، إلى التدخل المباشر الصريح بل العلني، وما يزال أغلبنا يتذكر ذلك التفاخر لكبار المسؤولين الإيرانيين بأن إيران موجودة داخل أربع دول عربية.
بل قفزت طهران إلى مرحلة متقدمة للغاية، وهي استخدام القوة الخشنة بأشكال متنوعة، من دعم عسكري مباشر للحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، إلى استخدام القدرات العسكرية الإيرانية نفسها داخل سوريا، ثم استجلاب مليشيات مسلحة ومرتزقة من دول للقتال المباشر على الأراضي السورية، ثم توظيف المليشيات الشيعية الموالية لها في العراق ضد المصالح والأهداف الأمريكية داخل العراق.
وليس أدل على تلك النقلة النوعية في السلوك الجامح والغرور الإيراني، من الدخول فيما يمكن اعتباره مناوشات بحرية متبادلة مع إسرائيل في بحر العرب والبحر الأحمر، والمفارقة التي ينبغي قراءة مغزاها أن هذا التصعيد الأخير الذي طاول إسرائيل نفسها بدأ تحديداً بالتزامن مع دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض.
بعد كل هذا الاستفزاز، إذا بالتصريحات العلنية والإشارات الصادرة من واشنطن حول مسار المفاوضات النووية الجارية في فيينا تنحدر في تراجع مثير للدهشة، من ضرورة إدراج كل القضايا والملفات في أي اتفاق محتمل، خصوصاً الصواريخ والقدرات العسكرية المتقدمة سواء التقليدية أو غير التقليدية "وهو ما أعلنه بايدن في حملته الانتخابية"، إلى عدم رفع أية عقوبات قبل إحياء الاتفاق واستئناف طهران التزاماتها النووية بموجبه أولاً، ثم أخيراً لم تعلق واشنطن على ما يصدر من إيران حول رفع العقوبات كاملة أولاً، وأنه لا تفاوض على أي ملفات أو قضايا خارج نطاق الاتفاق النووي الأصلي، وهذا ما يدعو المراقب للشأن الإيراني لأن يبدي استغرابه وقلقه من أن تكون واشنطن هي التي انصاعت أمام طهران.
المؤشرات الصادرة من فيينا تقول: لن يكون هناك اتفاق جديد بالمعنى الصحيح للكلمة، وإنما هو الاتفاق نفسه القديم، لكن على ورق وحبر جديدين!!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة