لعله من غرابة فصول التاريخ أن الملك الذي قُدِّر له أن يعيد بني إسرائيل إلى القدس مرة جديدة، لم يكن سوى الإمبراطور الفارسي "كورش".
طوال أربعة عقود هي عمر الثورة الإيرانية، رفع نظام الملالي عالياً شعار فلسطين، ونسجوا من حول القضية الفلسطينية الروايات والأساطير، حتي خيل للناظر إلى المشهد الإيراني أن جيوش كسرى الجديدة سوف تنطلق نحو جهة أورشليم القدس؛ لتخليصها من أيدي اليهود حسب توصيف آيات الله.
طوال أربعة عقود عقد الملالي مئات، وربما آلاف، المؤتمرات الزاعقة لنصرة فلسطين، ودعم وضع القدس، وكرسوا يوماً لزهرة المدائن، وأنشأوا فيلقا ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني تحت اسم "فيلق القدس"، غير أنه عوضا عن أن يمضى في طريق الأقصى لتحريره، ابتُعث بعضه إلى سوريا، والبعض الآخر إلى اليمن، فيما القسم الأكبر مضى في طريق بغداد، والقلة القليلة وجهت دعماً عسكرياً لحماس لتعميق الشرخ في الجسد الفلسطيني الواحد، وبما يخدم إسرائيل لا فلسطين.
سياسات طهران لم يكن لها من مستفيد سوى إسرائيل، فكلما تعذرت المصالحة بين فتح وحماس، نام نتنياهو ومن لف لفه قرير العين، فيما أموال وأسلحة حماس التي تصل من طهران بحراً، وبراً من خلال حزب الله هي أفضل أداة لخدمة الاحتلال الإسرائيلي، ودوام بقائه كالكابوس الجاثم
أحد أفضل العقول التي قدمت لنا طرحاً شافياً وافياً عماً يجري في المنطقة، وتحديداً في إيران وعلاقتها بالعالم الخارجي المحيط بها جغرافياً، كان الكاتب والباحث الأمريكي الجنسية، الإيراني الأصل "تريتا بارزي" عبر مؤلفه الحقيق بقراءته إن أردنا سبر أغوار الحقيقة، والذي يحمل عنوان "حلف المصالح المشتركة"، ويبين فيه بوضوح العلاقة ما بين طهران وتل أبيب وصولاً إلى واشنطن.
تكشف فصول الكتاب الذي يتجاوز الخمسائة صفحة من القطع الكبير، قدر الزيف الدعائي والإعلامي الذي صدّرته إيران للعالم الإسلامي حين غازلته بالعزف على وتر القدس وفلسطين، في حين أنها لم تقدم للقضية أي دعم حقيقي على الأرض، يحفظ للفلسطينيين كرامتهم الإنسانية، أو يزخم عدالة قضاياهم في الهيئات الأممية .
ولعل الأمر الذي لم يتوافر لـ"بارزي" كي يذكره، يحتاج إلى باحث معمق في الشؤون التاريخية والدينية معاً، فالعلاقة بين مملكة كسرى الفارسية وبني إسرائيل، ليست علاقة وليدة اليوم، وانما هي نتاج تواصل يصل إلى أكثر من 2500 عام.
حدث في العام 586ق.م، أن استطاع الملك البابلي "نبوخذ نصر" تدمير مملكة إسرائيل، وأن يأخذ كل الشعب العبراني أسرى، فيما عرف تاريخياً باسم "السبي البابلي".
ولعله من غرابة فصول التاريخ أن الملك الذي قدر له أن يعيد بني إسرائيل إلى القدس مرة جديدة لم يكن سوى الإمبراطور الفارسي "كورش"، ولهذا اعترف رئيس وزراء إسرائيل "شيمون بيرنير" ذات مرة بأن استمرار حياة بني إسرائيل هدية من الشعب الفارسي، وأنه من دون المساعدة التي قدمها لهم الفرس لكانوا نسياً منسياً في حياة الأمم والشعوب، ومجرد ذكرى لأمة ظهرت ثم اختفت.
لم تنقطع العلاقات السرية بين الإيرانيين والإسرائيليين طوال العقود التي تبعت الثورة الإسلامية العام 1979، وخير دليل على ما نقول به فضيحة "إيران كونترا غيت".
وفيما كان الشعب الإيراني يتابع المشهد عن كثب، تبين له يوماً تلو الآخر، مقدار الزيف والكذب الذي غلف به الملالي القضية وأضاع أموال الشعب في مغامرات عسكرية إرهابية خارج طهران، لا علاقة لها بتحرير فلسطين.
منذ الأيام الأولى لثورة إيران تحدث الخميني، كبيرهم الذي علمهم السحر بالقول: "إن طموحات الثورة الإسلامية الإيرانية لا تتوقف عند حدود الجمهورية الإيرانية، وإنما تسعى لأنْ يرتفع علم إيران وثورتها فوق عواصم عربية من الرياض إلى القاهرة، ومن دمشق إلى بغداد، وصولاً إلى البقية الباقية".
أربعة عقود استنزف فيها الملالي أموال الإيرانيين سعياً وراء شعارات جوفاء، وقد عنّ لهم في الأعوام القليلة التي تلت ما عرف بالربيع العربي، والذي هو في حقيقة شتاء أصولي مغشوش، عنّ لهم اقتناص الفرصة، وتحويل دفة الأمور لصالحهم، غير أن ثورة المصريين في 30 يونيو 2013 أفسدت الأمر كله، ولهذا يبقى الملالي حاملين للأحقاد التاريخية تجاه الدولة والمؤسسات المصرية، ومن هنا ترفض مصر حتى الساعة إقامة علاقات دبلوماسية مع نظام لا يزال يمجد قاتل أحد رؤساء مصر "أنور السادات"، عبر تخصيص شارع وميدان له في طهران، ومن جهة أخرى يقدم الملجأ والمأوى للإخوان المسلمين، ذلك الفصيل الإرهابي الذي خلعه المصريون.
أزفت الساعة وخرج الإيرانيون إلى الشوارع، ومن أسفٍ فقد رفعوا عقيرتهم بهتافات "الموت لفلسطين"، و"غادروا سوريا"؛ احتجاجاً على السياسات الخارجية الإيرانية التي استنزفت ثروات النفط والغاز الإيرانييْن، لتمويل الحركات المسلحة في الخارج.
يهيأ للمرء أن الإيرانيين من العوام لم يقصدوا قطعاً تمني الموت أو الهلاك لفلسطين التي لها قدسية خاصة في نفس كل مسلم، لكن الرسالة واضحة وفاضحة، فهي بداية تعني أن صبر الشعب الإيراني قد ضاق ووصل إلى المنتهى، وفاضحة ثانية لمؤامرات الجالسين في الحوزة، الذين يبررون استمرار تلك السياسات العمياء من أجل صالح طغمة الأدعياء من الملالي، في حين أن الشعب يهلك جوعاً.
من جراء مغامرات الملالي وعنادهم وكبرياءهم، عطفاً على أوهام تغيير العالم في انتظار الإمام الغائب، والتي دفعت طهران في طريق المشروع النووي، ها هو الوضع الاقتصادي ينهار والإفقار الهائل للسكان يمضي قدماً، وأدى انخفاض قيمة الريال إلى ارتفاع أسعار بعض السلع المستوردة بنسبة 100%، فيما انخفض نشاط بورصة السلع الإيرانية إلى أدنى حد، وزاد الطين بلة قرار الحكومة رفع رسوم مغادرة البلاد.
هل كانت فلسطين وقضيتها هي السبب في إفراغ خزائن بيت مال الملالي؟
بالقطع ذلك ليس السبب، والعهدة هنا على الراوي "أسامة القواسمي" المتحدث الرسمي باسم حركة فتح، الذي أشار إلى أن "أحداً من الشعب الفلسطيني لم ير أو يسمع عن الدعم الإيراني بالمطلق، ولم نر أو نسمع أن إيران أسهمت في بناء مدرسة أو جامعة أو مستشفى أو أي مشروع تنموي".
ما فعلته طهران ونظامها المغرق في دوجمائية ظلامية، هو أنها عمقت الخلافات بدعمها لحماس، في مواجهة فتح، واستخدام كوادر الأولى، كمنطلق لتصفية حسابات مع قوى إقليمية ودولية، لا حباً في الفلسطينيين أنفسهم، الأمر الذي دعا الرئيس محمود عباس في مارس 2009 ولأول مرة لأنْ يطلب من إيران وبشكل علني، الكف عن التدخل في الشؤون الفلسطينية، متهماً إياها بتعميق الانقسام الفلسطيني .
سياسات طهران لم يكن لها من مستفيد سوى إسرائيل، فكلما تعذرت المصالحة بين فتح وحماس، نام نتنياهو ومن لف لفه قرير العين، فيما أموال وأسلحة حماس التي تصل من طهران بحراً، وبراً من خلال حزب الله هي أفضل أداة لخدمة الاحتلال الإسرائيلي، ودوام بقائه كالكابوس الجاثم على صدر المقدسيين بداية، وسكان فلسطين التاريخية تالياً.
كان يمكن للملالي أن يخدعوا شعوبهم لأربعة عقود، أما إلى الأبد فهذا هو المستحيل، وتلك إرهاصات النهايات لإيران العنصرية.. فانظر ماذا ترى؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة