«جبهات موازية» في السودان.. حرب صور ومعلومات مضللة
حرب موازية تدور رحاها في السودان، تغذيها صور ومعلومات مضلّلة عبر مواقع التواصل، تساهم في رفع منسوب الاستقطاب ببلد منقسم.
وخلال 6 أشهر، نشر موقع "بيم ريبورتس" السوداني للتحقّق من المعلومات الرقمية "حوالي أربعين تقريرا تحقّق فيها من المواد المنشورة، تبيّن أنّ أكثر من نصفها يتعلّق بمعلومات مضلّلة بشأن الحرب"، والتي تزامنت بدورها مع "سرديات سامّة تهدف على ما يبدو إلى تأجيج التوترات"، وفقا لأحد خبراء الموقع نهال عبداللطيف.
ويقول عمار صلاح عمر (34 عاما) وهو لاجئ سياسي سوداني يعيش في باريس، لوكالة فرانس برس: "كل يوم، أشاهد ما يجري على وسائل التواصل الاجتماعي... نبحث عن الحقيقة، ولكن هذا صعب للغاية، كلّهم يكذبون ونحصل على القليل من المعلومات".
حرب تضليل
في بداية أغسطس/آب الماضي، زعم التلفزيون السوداني الرسمي، التابع للجيش، أن "طائرة مستأجرة من الإمارات تنقل عسكريين كولومبيين، أُسقطت قرب مطار تسيطر عليه قوات الدعم السريع".
وانتشرت هذه المعلومات قبل أن يتمّ دحضها بشكل قاطع، خصوصا من خلال صور الأقمار الصناعية التي أظهرت عدم وجود أي حدث في موقع التحطّم المفترض.
وفي 29 أغسطس/آب الماضي، كشفت خدمة تقصي الحقيقة بوكالة رويترز أن الفيديو يعرض تدريبا عسكريا مشتركا في إستونيا وليس مرتزقة كولومبيين يقاتلون في السودان.
ويظهر الفيديو جنودا يدخلون واحدا تلو الآخر إلى مركبة عسكرية بداخلها شخص يرتدي زيا عسكريا ويطلقون قذائف ويمكن سماع الشخص بالداخل يقول "مُستعد، أطلِق النار" باللغة الإنجليزية.
ورغم محاولة التضليل بشأن هذا المقطع، إلا أن تقصي الحقيقة أظهر أنه يصور جزءا من تدريبات عسكرية مشتركة بالذخيرة الحية تضم قوات من أربع دول في إستونيا جرت في يوليو/تموز 2025.
ونشرت هيئة توزيع المعلومات المرئية الدفاعية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (دي فيدز) مقطع الفيديو الأصلي, في 29 من الشهر المذكور ضمن نسخة أطول.
وقالت الهيئة إن الفيديو جرى تصويره في 24 من الشهر، وشاركت به وحدات بالجيش الأمريكي والقوات المسلحة البريطانية والكندية والإستونية بالقرب من معسكر تابا في إستونيا.
ويمكن ملاحظة أن الزي العسكري الذي يرتديه الشخص الذي يجلس داخل المركبة العسكرية وأحد الجنود الذين يطلقون القذائف يوجد عليه رمز الفرقة الثالثة للمشاة بالجيش الأمريكي, والذي كان يشارك جنود منها في التدريبات المشتركة بإستونيا، وفق رويترز.
وفي بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انتشرت صورة على نطاق واسع تظهر مشهد إعدام، وذلك للتنديد بانتهاكات قوات الدعم السريع أمام مجلس الأمن.
ولكن هذه الصورة التي كانت قد نُشرت في أبريل/نيسان 2025 للتنديد بأعمال عنف في تشاد، لم يكن لها أي صلة بالسودان، وفقا لـ"بيم ريبورتس".
ولم تكن تلك الصورة الوحيدة التي استخدمت لتأجيج حرب التضليل بالسودان، ففي نفس الفترة. نشر مستخدم مجهول على منصة «إكس» صورة قال إنها «أكثر مشهد صادم في تاريخ غوغل إيرث»، داعيًا إلى الحديث عما وصفه بـ«الإبادة الجماعية في السودان».
كانت الصورة تُظهر بقعة داكنة وسط أرض جرداء، وبدا للناظرين أن أجسادًا متراصة تغطيها — مشهد بدا متسقًا مع الأخبار القادمة من دارفور، حيث تتحدث تقارير أممية عما قالت إنها «فظائع».
وأمام هذا الانتشار الواسع، بدأ مختصو تحليل الصور في قسم المراقبين بشبكة «فرنسا 24» عملية تتبّع دقيقة للصورة.
النتيجة الأولى كانت صادمة: فالصورة لم تُلتقط في أكتوبر/تشرين الأول 2025 كما ادّعى ناشروها، بل تعود إلى 16 مارس/آذار 2024، أي قبل نحو عام ونصف من الأحداث الأخيرة في الفاشر.
أما الموقع، فهو بلدة كوميا الواقعة على بعد حوالي 300 كيلومتر جنوب الفاشر، وليس موقعًا لعمليات عسكرية أو مقابر جماعية كما زُعم.
والأكثر من ذلك أن صورًا أرشيفية تعود إلى عام 2022 تُظهر المشهد نفسه تمامًا - البقعة الداكنة، والظلال الصغيرة المنتشرة حولها، دون أي تغيير يُذكر. وهذا يعني أن الصورة ليست فقط قديمة، بل إنها لا علاقة لها بأي حدث دموي حديث.
ويأتي كل ذلك فيما أوقفت الصحافة التقليدية نشاطاتها بشكل شبه كامل بسبب الحرب، ووفق نهال عبد اللطيف، فقد استغل المعسكران هذا الأمر "لنشر الدعاية والتقارير العسكرية الكاذبة وخطاب الكراهية والتضليل الإعلامي بهدف تشويه سمعة العدو".
الفاشر.. نقطة تحول
لكن في الميدان كما هو الأمر في الفضاء الرقمي، شكل سقوط مدينة الفاشر في إقليم دارفور بقبضة قوات الدعم السريع في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نقطة تحوّل.
وبموازاة انتشار المجاعة واحتدام القتال، تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صور أطفال يعانون سوء تغذية أو سوء معاملة التُقطت في دول أفريقية أخرى. وإلى جانب التصريحات العدوانية، تتدفق مقاطع فيديو تظهر القتال والفظائع المرتكبة.
ونددت قوات الدعم السريع بـ"روايات... لا تمت إلى الحقيقة بصلة"، في مواجهة اتهامها بقتل 460 مريضا ومقدم رعاية صحية في مستشفى بالفاشر، استندت خصوصا إلى صور نشرها عناصرها.
وجاء ذلك قبل أن تنشر على قناتها عبر تطبيق تليغرام، مقاطع فيديو تظهر أطباء يعالجون مرضى أو مقاتلين يوزعون مساعدات لجرحى بينما كانوا يغنّون.
تركة الإخوان
ولكن التضليل ليس ظاهرة جديدة، ففي أوائل العقد الثاني من القرن الحالي، قامت أجهزة الاستخبارات التابعة للرئيس السابق عمر البشير (الذي تولى السلطة من العام 1989 إلى العام 2019) بتطوير "وحدة الجهاد الإلكتروني" لمواجهة التعبئة المدنية التي نشأت خلال أحداث 2011 في عدد من الدول العربية.
واليوم، يستخدم الجيش الوسائل ذاتها "لتشويه سمعة" قوات الدعم السريع، وفقا لكليمان ديشاييس، وهو عالم اجتماع متخصص في شؤون السودان في المعهد الفرنسي للأبحاث من أجل التنمية.
ووفق البنك الدولي، فإن حوالي ثلثي الشعب السوداني لم يكن بإمكانه الاتصال بالإنترنت قبل الحرب، ومنذ ذلك الحين، تفاقمت هذه المشكلة جراء أعطال شبكة الاتصالات.
وتؤكد هند عباس حلمي الأستاذة في جامعة الخرطوم، أنّ المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي "تنتقل شفهيا وهو أمر في غاية الخطورة".
خطاب الكراهية
وتسهّل وفرة المعلومات الكاذبة في السودان "فوز الكاذب"، ووفقا لدراسة حديثة أجرتها مؤسسة "كونراد أديناور ستيفتونغ" الألمانية، فإنّ التنديد بها أو إنكارها يسمح "بتحويل الانتباه أو التهرّب من المسؤولية أو بتشويه سمعة العدو".
وتقول هند عباس حلمي إنّ "خطابات الكراهية تنتشر بسرعة كبيرة جدا منذ أن تمددت الحرب في جميع أنحاء البلاد".
ويوضح كليمان دوشاييس أنّ "الخطاب عبر الإنترنت انتشر على نطاق واسع مترافقا مع دعوات إلى القتل وإلى انفصال... دارفور".
وأشار إلى "دينامية تشجّعها الأطراف المتحاربة" وإلى "تسارع الأخبار الكاذبة" و"خطابات أكثر استقطابا وأكثر وحشية وأكثر عنفا".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTIwIA== جزيرة ام اند امز