في ظل أسوأ أزمة إنسانية يعيشها السودان منذ عقود، تختار حكومة بورتسودان مواجهة المنظمات الإنسانية بدلا من مواجهة الكارثة.
فبينما يقف أكثر من 24 مليون شخص على حافة الجوع وانعدام الأمن الغذائي، تصعد حكومة بورتسودان خطابها العدائي ضد الإغاثة الدولية، وتعرقل القوافل التي تحمل شريان الحياة لمناطق النزوح المنهكة بالحرب المستمرة منذ أبريل/نيسان 2023.
ووفق خبراء سودانيين لـ"العين الإخبارية" فإن ما يجري ليس مجرد سوء إدارة للأزمة، بل نتيجة صراع عميق داخل المؤسسة العسكرية أفرز سياسات متضاربة شلت عمل المنظمات الدولية، وحولت المساعدات إلى ورقة ضغط سياسي تستخدم في معارك النفوذ، في وقت يعتمد فيه الملايين على تلك الإغاثة للبقاء على قيد الحياة.
وأكدوا أن المدنيين هم الخاسر الأكبر مع حكومة تركز على الحسابات الداخلية ولا تنظر إلى أولويات حماية الشعب وتتركهم في مواجهة مصير مأساوي يتفاقم يوما بعد يوم.
وطبقاً لبيان صادر عن مجموعة "محامو الطوارئ" في السودان، اطلعت عليه "العين الإخبارية"، فإن طائرات مسيّرة قالت إنها تابعة للجيش السوداني، استهدفت شاحنات إغاثة، وذلك في ثلاث هجمات وقعت خلال أيام 6 و9 و13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أثناء مرور القوافل عبر ولاية وسط دارفور غربي السودان في طريقها إلى مدينة الفاشر شمال دارفور.
وتأتي هذه التطورات، أعقاب القرار الذي اتخذته وزارة خارجية السلطة في بورتسودان، بطرد اثنين من كبار المسؤولين في برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

صراع الأجنحة
ويرى الباحث الأكاديمي والمحلل السياسي السوداني، حاتم طه، أن "قرار طرد موظفي الإغاثة في السودان، لم يكن قرار دولة تبحث عن سيادة، بل قرار جناح يبحث عن نفوذ، ولو على حساب أطفال يموتون جوعًا".
وقال طه لـ"العين الإخبارية" إن " أحد الأجنحة داخل الجيش السوداني، ظل يدفع باتجاه المواجهة مع المجتمع الدولي، ليس دفاعًا عن الوطن، بل حفاظًا على مواقعه داخل السلطة".
وأضاف "في المقابل، هناك جناح آخر يعرف خطورة هذا العبث، لكنه عاجز عن كبح الفوضى أو فرض عقل دولة على عقل المليشيات".
وأكد أن هذه الوقائع تُظهر أن الملف الإنساني لم يعد عند سلطة بورتسودان ملفًا للإنقاذ، بل ملفًا للابتزاز السياسي.
وأشار إلى أن هناك جناحا في بورتسودان، يريد أن يُظهر للمجتمع الدولي أنه قادر على طرد من يشاء، وجناح يريد استخدام المساعدات كورقة تفاوض، فضلاً عن جناح ثالث، يرى في التحكم في الإغاثة وسيلة لشراء الولاءات في المناطق المنكوبة.
وقال طه: "لكن بين هذه الأجنحة، هناك ملايين البشر الذين أصبحوا مجرد أرقام في سجلات الأمم المتحدة، بينما هم في الحقيقة أجساد تتضور جوعًا".

ورقة ضغط
ويتفق معه الكاتب الصحفي والمحلل السياسي في السودان، كمبال عبدالواحد، خلال حديثه لـ"العين الإخبارية"، مؤكدا أن قرار طرد موظفي الإغاثة يكشف بوضوح حجم الصراع العميق بين الأجنحة داخل الجيش السوداني".
وبحسب عبدالواحد فإن صراع الأجنحة داخل الجيش السوداني، انعكس في سياسات متضاربة، أربكت عمل المنظمات الإنسانية".
وأضاف: "بينما تسعى بعض مراكز القوى في المؤسسة العسكرية السودانية، لإظهار قدر من الانفتاح لكسب الشرعية الدولية، تتعامل أطراف أخرى مع الملف الإنساني كأداة ضغط، ما أدى إلى قرارات ارتجالية تعرقل وصول المساعدات الضرورية".
وأوضح أن هذا القرار يعكس أيضاً حالة تخبط واضحة في التعامل مع المنظمات الدولية، خاصة أنه جاء في لحظة يعتمد فيها ملايين السودانيين على الإغاثة للبقاء".
ويشير استخدام الأزمة الإنسانية كورقة صراع، وفق عبدالواحد، إلى أن أولويات السلطة الحاكمة "متضاربة" وغير موجهة لحماية المدنيين، بل لترتيب النفوذ داخل المؤسسة نفسها".
وختم حديثه قائلا: " هكذا باتت مصالح الشعب السوداني في آخر قائمة الاهتمامات، بينما يستمر الصراع الداخلي في تقويض أي جهود لإغاثة المتضررين وإنهاء الحرب".
أداة حرب جديدة
ووفق بيان مجموعة "محامو الطوارئ" والذي اطلعت عليه "العين الإخبارية"، فإن الهجمات الجوية التي شنها الجيش السوداني مؤخرا، أدت إلى تدمير عدد من الشاحنات وتعريض حياة المدنيين والعاملين في المجال الإنساني لخطر بالغ، في وقت يعتمد فيه مئات الآلاف من السكان على المساعدات الطارئة بعد الانهيار الكبير للخدمات الأساسية في الإقليم".
وأكدت المجموعة أن استهداف القوافل الإنسانية يشكل "انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني” ويقوّض الجهود المحلية والدولية لإيصال الغذاء والدواء لمناطق تعيش أوضاعاً حرجة، مشيرة إلى أن هذه الهجمات تهدد بزيادة معدلات الجوع والأمراض وتحويل العمل الإنساني إلى "أداة حرب" بما يفقده حياده وشرعيته.

وأكدت المجموعة أنها ستتابع هذه الحوادث عبر “كل السبل القانونية المتاحة” لضمان عدم إفلات أي طرف من المساءلة، خاصة في ظل وضع إنساني متدهور يهدد بمجاعة واسعة النطاق.
جهود الإغاثة في خطر
وفيما يتعلق بإقدام حكومة بورتسودان على طرد موظفي الإغاثة في السودان، قال برنامج الغذاء العالمي في بيان سابق: إن قرار طرد مدير مكتب البرنامج في السودان ومنسق الطوارئ يأتي في وقت حرج، مع مواجهة أكثر من 24 مليون شخص انعداماً حاداً في الأمن الغذائي.
وأشار البيان إلى أن القرار يأتي في وقت يحتاج فيه البرنامج وشركاؤه إلى توسيع نطاق عملياتهم، لكنه سيضطر الآن إلى إجراء تغييرات غير مخططة في القيادة، "وهو ما يعرض للخطر جهود الإغاثة التي يعتمد عليها ملايين السودانيين الضعفاء في مواجهة الجوع وسوء التغذية والمجاعة المحتملة".

وكان البرنامج أوضح أن مسؤوليه الكبار في الأمم المتحدة يتواصلون مع سلطة بورتسودان للاحتجاج على القرار وطلب توضيح أسبابه، داعياً جميع الأطراف إلى إعطاء الأولوية لحياة ملايين السودانيين الذين يعتمدون على المساعدات الغذائية للبقاء على قيد الحياة.