الثابت أن الجميع كان ينتظر أن تقوم العولمة والحداثة بعملية إزاحة للأديان من طريق الإنسان غير أن النتيجة كانت مختلفة كل الاختلاف.
قبل يومين انطلقت في أبوظبي أعمال مؤتمر "تحالف الأديان لأمن المجتمعات: كرامة الطفل في العالم الرقمي"، ضمن سلسلة من المؤتمرات والفاعليات التي اهتمت بها دولة الإمارات العربية المتحدة في الأسابيع الماضية، وفي طريق تمهيد الدروب وتعبيد المسالك لإنسانية أكثر أمنا وأمانا، لا سيما أن المؤتمر الأخير يأخذ بعين الاعتبار أطفال اليوم وهم رجال الغد الأولى بالرعاية والاهتمام، والحماية في العالم الافتراضي، تعني صون مستقبل الدول في عالم سقطت فيه الحدود، وأزيلت منه السدود، وبات بالفعل كما أكد ذلك عالم الاجتماع الكندي الأشهر "مارشال ماكلوهان" في ستينيات القرن الماضي "قرية صغيرة".
علينا أن نبحث في عمق الأديان كرسائل للسلام لا كأدوات للخصام، وهنا لا بد من إعادة القراءة والتفسير الدقيق لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية وتتضح أهمية وجود فهم معاصر للكتب السماوية دون أي اقتراب أو مساس بجوهر النصهناك ذكاء اجتماعي كبير في واقع الحال في اختيار موضوع المؤتمر والربط بين أمن المجتمعات وأصحاب الأديان المتحالفين من جهة، وبين إشكالية العالم الرقمي ومعلوماته وأجيال المستقبل من جهة ثانية، وفي كل الأحوال يشير العنوان إلى مقدرة استشرافية غير اعتيادية عند القائمين على المؤتمر.. والسؤال لماذا؟
بعض من الجواب نجده عند الكاتب والمؤلف الأمريكي "دافيد روثكوبوف" في كتابه "الطبقة الخارقة.. نخبة التسلط العالمي وأي عالم تبني"؛ حيث يشير إلى أنه اليوم وبعد قرون عدة من توقع عصر يغلب فيه العلم على الهيمنة التاريخية للمؤسسات المرتكزة على الإيمان العقائدي تتحد قوة الدين مع قوة الإعلام الحديث لتسهيل إعادة الولادة الدينية، وهذا بدوره أحيا وعزز مكونا مهما لطبقة النخبة العالمية، أي القادة الدينيون لعصر المعلومات.
والثابت أن الجميع كان ينتظر أن تقوم العولمة والحداثة بعملية إزاحة للأديان من طريق الإنسان، غير أن النتيجة التي نحن إزاءها مختلفة كل الاختلاف، فها نحن أمام تركز السلطة وبشكل هائل بين أيدي القادة الدينيين، وكأن المخاوف التي ولدتها العولمة دفعت البشر في طريق إغراق أكبر وأعمق في الحياة الدينية، وأضحت عدة أديان تبسط سيطرتها على أكثر من نصف الخليقة، إذ تسيطر المسيحية على أكثر من 2.1 مليار نسمة، والإسلام يفوق أتباعه 1.5 مليار نسمة، فيما أتباع الهندوسية يصلون إلى قرابة المليار نسمة، والأديان الصينية التقليدية إلى 400 مليون نسمة، والبوذية 376 نسمة، واليهودية نحو 15 مليون نسمة.. هل تحققت نبوءة الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير أندريه مالرو بالفعل؟
النبوءة التي نحن بصددها تتصل بالسؤال الذي طرحه الرجل الذي شغل منصب وزير الثقافة الفرنسي ذات مرة من ستينيات القرن الماضي، والقريب من قلب وعقل الرئيس الفرنسي الأشهر "شارل ديجول"، فقد تساءل مالرو "هل سيضحى القرن الحادي والعشرين قرنا دينيا أم لا؟".
والثابت أننا اليوم نحن على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين نجد انفجارا غير مسبوق ولا محدود لفكرة التدين، غير أنه ومن أسف انفجار ذهب في طريق غير خلاق عند البعض، فعوضا عن أن يكون بعض القائمين على شؤون الأديان دعاة للتوفيق وجدناهم أدوات للتفريق، وبدلا من أن يشرحوا عن الآخر صاروا يجرحون في المغاير، ومن هنا نشأت الأصوليات في الشرق، وتصاعدت القوميات والشوفينيات العنصرية في الغرب، وفقد العالم جزءا بالغا من سلامه النفسي والحسي، ومن أمن وأمان مواطنيه، وعليه فالربط بين الأديان المتحالفة والمجتمعات الإنسانية، هو ربط جوهري وفي موقعه وموضعه بالتمام والكمال.
علامة استفهام أخرى طرحها الفيلسوف واللاهوتي السويسري "هانز كونج".. هل يمكن أن يقوم سلام بين الأمم دون أن يوجد سلام بين أتباع الأديان؟
دعونا قبل الجواب ندلل بمثل ولو سيئ من أسف لما يمكن أن تصنعه القيادات الدينية المتطرفة في البشر والحجر، والمقصد هنا الإشارة إلى صاحب الثورة الإيرانية الخوميني، الرجل الذي أشعل ثورة إيديولوجية مخبأة تحت عباء دوجمائية قبل أربعة عقود تقريبا، فقد أضرم نيران الأصوليات وعمق شعارات الكراهية لا في منطقة الخليج العربي فحسب ولكن في عموم منطقة الشرق الأوسط، وقد كانت ثورته غير المحمودة مثلا يحتذى لحركات مشابهة باتجاه أشكال من القومية تعتبر دينية أكثر في الهند وباكستان وبانجلاديش وسيرلانكا.
معنى هذا أن انتفاء السلام بين أتباع الأديان يقود بالضرورة والحتمية التاريخيين إلى مجاهل الصراع القبلي، والعودة إلى ما قبل التمدن والعصرانية وأثواب الحضارة وإن اكتفى الجميع بالقشور.
يدعونا مؤتمر أبوظبي الأخير لأن نفتح أعيننا على المستقبل؛ حيث أطفال وأجيال قادمة سوف تحيا في عمق الثورة الرقمية، وما يمكن أن تقدمه لها وسائط التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام المتباينة، وهذه يمكنها أن تصنع صيفا أو شتاء، بالنسبة للبشر القادمين والعابرين على دروب الزمن يمكنها أن تبني تحالفات أو تنشئ صراعات.
من هذا المنطلق ربما يتحتم علينا أن نبحث في عمق الأديان كرسائل للسلام لا كأدوات للخصام، وهنا لا بد من إعادة القراءة والتفسير الدقيق لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية، وتتضح أهمية وجود فهم معاصر للكتب السماوية دون أي اقتراب أو مساس بجوهر النص.
يمكن لتحالف الأديان أن يوفر لأطفال الغد مستقبلا أكثر طمأنينة إن استطاعت مواجهة التطرف بجميع أشكاله وأنواعه، لا سيما أنه الباب المؤدي إلى الإرهاب بصورة قطعية، والأخير هو آفة القرن الحادي والعشرين والطاعون في شكله العصري.
قادة الأديان يمكنهم لفت نظر المتطرفين إلى الأصول الخاصة بالحرية ومبدأ التعددية والانفتاح أمام الآخرين، في تراث كل فريق منهم في التوراة والتلمود عند اليهود، وفي الأناجيل والكتابات المسيحية عند المسيحيين، وفي القرآن والسنة عند المسلمين، ويمكنهم أيضا تنبيه التقدميين إلى ضرورة ممارسة النقد الذاتي فيما يخص كل المحاولات الواهية للتكيف مع روح العصر والعجز عن رفض ما يجب رفضه.
يستطيع قادة الأديان انتهاج طريق روحاني جديد وممارسته بصدق وأمانة مع الذات ومع الآخر، والعزم على مقاومة جميع أشكال التطرف على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفي إمكانهم أيضا أن يعلموا أتباعهم أن الأمن الحقيقي والسلام الخلاص لن يتوافرا إلا عندما يتم التخلي من كل طرف عن محاولات نفي الآخر أو إقصائه.
الخلاصة: الأديان لديها قوة كافية مؤثرة من أجل المستقبل على أساس الثراء الروحاني والأخلاقي، وجميعها يمكن أن تسهم في صوغ مستقبل أكثر عدلا وأمانا بالنسبة لأطفال اليوم شباب ورجال الغد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة