لا شيء يخفى من الفساد في العراق. وهو عميم إلى درجة أنه لم يترك حيزا للنفوذ والتأثير إلا طغى عليه.. الفساد هو الدولة
العراق إنما يعيش كارثة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وصحية وأخلاقية لم تجتمع له من قبل كما تجتمع الآن. والخلطة العجيبة بين ذوي العمائم ومليشيات السياسة، هي واحدة من أسس التلوث، وأحد أهم مصادر الفشل. لا الدين منها نجا، ولا السياسة، ولم يدفع الثمن إلا الناس.
ولا تجد مأساة في أي مكان أشد منها في العراق. فهذا بلدٌ مبتلى بكل الرزايا الممكنة. والنظام الطائفي صنع من ذوي العمائم مراجع تُطرق أبوابهم وبهم يلوذ اليائسون، فماذا يفعلون؟ ما هو "الشغل" الذي ينشغلون به حقا؟ أهي "خطبة" جمعة يلقونها كمن يقدم نوعا من "إيجاز" من باب رفع العتب؟ أهذا هو دورهم فعلا وهم يرون الفساد ينهش الاقتصاد وينخر عظام المجتمع؟ أتلك هي حدود المسؤولية، وهم يرون الناس يُقتلون ويُختطفون ويُعذون وتُنتهك أعراضهم؟ أبالنصح يُصلح الفاسدون؟ أم بالتضرع يرعوي المليشياويون؟ أم بالصمت يرتدع المأجورون؟
ويقال إن لبعضهم كلمة "مسموعة"، ولكن ممن؟ إذا كان السامعون هم الضحايا، أفليس من الإنصاف أن يقف "المسموع" إلى جانب سامعيه، وأن ينصرهم على من يظلمهم، وأن يدرك آلامهم ويشفي جراحهم، وأن يتصدر الدفاع عن حقوقهم؟ وأن يقف ليقول لسامعيه إنه معهم على الظالمين؟
أما إذا كان "السامعون" هم المجرمون والمليشياويون والفاسدون، فلماذا هم لا يسمعون؟ أم أن التواطؤ معهم هو القضية؟
لا شيء يخفى من الفساد في العراق، وهو عميم إلى درجة أنه لم يترك حيزا للنفوذ والتأثير إلا طغى عليه. الفساد هو الدولة. وكل أصحاب النفوذ والتأثير إنما يستظلون بظله الوارف.
لا شيء يخفى من الفساد في العراق. وهو عميم إلى درجة أنه لم يترك حيزا للنفوذ والتأثير إلا طغى عليه. الفساد هو الدولة. وكل أصحاب النفوذ والتأثير إنما يستظلون بظله الوارف.
أفلا يدرك "المسموعون" أنهم منظورون، بل مُنظرون؟ وهل تكفي كلمات تتبرأ من المسؤولية، أو تلقيها على عاتق آخرين، لتكون سترا لهم من الجحيم؟ والجحيم إنما هو ما يعيشه ملايين العراقيين من أتباع هذه الطائفة أو تلك. فهل من شك، في أنه جزء أصيل من مسؤولية مرجعيات الطوائف الذين يبدون كأنهم يتفرجون عليه من "شناشيل" النعيم؟
بالله ماذا يفعلون؟ وعندما يصحو واحدهم ليصلي إلى ربه، فماذا يقول له؟ هل يطلب المغفرة عن فشله في درء ما يجري من حوله، ثم ليعود ليطلبها هي نفسها الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟
أفلا يشعرون أنهم يتحملون الجزء الأهم من المسؤولية، بما أن النظام الطائفي هو نظامهم بالأساس؟ وأنهم "ممثلوه" ومعنيون بكل المصائب التي تحل على رؤوس الناس فيه؟ فهل يملكون أن يتبرؤوا من المسؤولية، في صلاتهم، إذا صلوا؟ وماذا لربهم سيقولون؟ أم يظنون أنهم قادرون على خداعه؟
منطقي تماما أن يستقيل ويعتذر من يفشل في أداء الدور المنوط به. فلماذا لا يعتذرون؟ لعل أحدا آخر أكثر جرأة في قول الحق يأتي من بعدهم. ولماذا لا يستقيلون، وهذا ربما كان أطهر مما قد يحاط بهم من ظلال الفساد؟
وجرائم القتل والتنكيل التي يتعرض لها الأبرياء والفقر والحرمان، أفلا تجد بينهم من يقف لها وقفة "رجل دين" أو وقفة "رجل" على الأقل. والناس لم يكسبوا منهم لا هذا ولا ذاك، وعلى خسرانهم يتحسرون.
وكأن المآسي نقصت حتى جاء وباء كورونا، في ظل فشل مكشوف لأنظمة الرعاية الصحية، في بلد لا يجد بالكاد كهرباء ولا ماء نظيف.
كيف يمكن للبلاء أن يكون أشد هولا؟ وهو ثمرة مشروع طائفي دموي وشرس، تقوده إيران، انتقاما من وجود العراق نفسه، ومن وجود العراقيين. فما بال أولئك الذين يجلسون على قمة الهرم الطائفي، لا يدركون أنهم مُدركون؟ وأنهم بما فعلوا، أو لم يفعلوا، مسؤولون عن ذلك الهول؟
في بيئة تسطو عليها مظاهر الزيف والخداع الديني، الطائفي بالأحرى، فإن "رجل الدين" جزء من التهمة. ولا يملك إلا أحد خيارين إما أن يتصدى لها، فينتصر للضحايا، أو أن يخلع العمامة.
وهو بصمته المريع، إنما يريد أن يوصل رسالة ضمنية تكاد تقول لكل الناس إنهم به مخدوعون؟ وأنه بصمته عما يتألمون، جزء من أصل المشكلة؟
ليس من شغل رجل الدين أن يعمل بالسياسة، فهي عالم وعالمه آخر. ولكنه عندما يجد نفسه مرجعا وموئلا للسياسيين، أفلا يمكنه أن يتبرأ منهم على الأقل، وهو يرى أن أياديهم إما ملوثة بالمال الحرام وإما ملوثة بدماء الأبرياء، وإما بكليهما معا.
أم أنه لا يرى؟ أم أنه شريك؟
وأولئك الذين يتربعون على عروش الطوائف، متدينين وغير متدينين، ذوي عمائم أو ذوي مليشيات، إنما ينتحرون بما فعلوا وبما لا يفعلون على حد سواء. فالثمار المرة ظلت من زرعهم، حتى نكّلوا بهذا البلد فنكبوه وثكلوه وأثخنوا فيه. أفلا يُدركون الى أين انتهت بهم الطريق، وأن عمائمهم عار، وأنهم أصل من أصول المأساة، حتى أينعت القناعة بالقطاف؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة