ديوان شعر في عزل كورونا.. سأترك لك جثة على سريري
"أن أكتبَ.. خير لي من أن أجازف وأعيش".. عبارة للشاعر فِرناندوا بيسوا (1888–1935)، الذي يوصف بأنه من أعظم شعراء اللغة البرتغالية.
عبارة اقتبسها الشاعر المصري محمد الكفراوي ليستهل بها ديوانه الشعري الرابع، الذي حمل عنوان "مكان مشبوه"، وكأنه أراد أن يبلغنا مسبقا بأجواء القصائد التي نوشك على الاصطدام بها بين دفتي الديوان، الصادر حديثا عن دار النشر الأردنية "خطوط"، وطرح لأول مرة بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي انتهت فعالياته السبت.
يمكن وصف الديوان كاملا بأنه يعبر تعبيرا دقيقا عن الأثر النفسي الذي تركته فترة العزل الطويلة التي وجد العالم نفسه مدفوعا إليها، هربا من جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، التي أصابت عشرات الملايين، وأودت بحياة نحو 1.5 مليون إنسان آخر.
فما أن تفتح الديوان حتى تقع عيناك على قصيدة الاستهلال بعنوان "مُولَعٌ بالأذَى"، ويشكو فيها الشاعر من أنه لا يستحق ما يعانيه من هذه الحياة، وقد يتسرب إلى أذنيك صوت محمد الكفراوي باكيا في سخط وشعور بالظلم الفادح، وهو يقول:
لَمْ أَفقَأْ عَينَ أرمَلةٍ
لَمْ أَسْلُخْ جِلْدَ طِفلٍ
لَمْ أغرِسْ أَسنَانِي فِي لَحمِي
ولوْ بِضعَةِ سَنتِيمتراتٍ قَليلةٍ
على سبيلِ التّسليةِ أو التغييرِ
الشياطينُ التي تتراقصُ في المرآةِ
أمامَ عينَيّ مباشرةً
طيّبةٌ لدرجةٍ مخجلةٍ
وتزداد نبرة السخط إلى حد التفكير في أن يؤذي الشاعر جسده، من خلال لوحة مغرقة في التشاؤم، جعلته يبدو زاهدا في هذه الحياة، التي لا يرى لها أية قيمة.
فتحت عنوان "دعوة للتخريب"، يقول:
طَوالُ هذِه السَّنواتِ
أُحَاولُ أنْ أُخرِّبَ جسدِي
نُدبةٌ هُنا.. غُرزةٌ هُناك
حُروقٌ وبُثورٌ مقصودةٌ
أمراضٌ لا نهايةَ لها
زرعتُها بعنايةٍ وقُمتُ بِرِعَايتِها.
أكثرُ من مرّةٍ
حاولتُ أنْ أُفْقِدَهُ التّوازنَ
أجْعَلُه أَعرَجَ أَحيانًا
أبْكمَ أحيانًا أُخرى.
لمْ يكُن قَصدِي الإِيذاءُ
بِقدرِ ما كنتُ أُريدُ
أنْ أُسرِّبَ لِهَذَا الجَسدِ
ـ هذهِ الكُتلةُ الصماءُ التي لا تَعنِي شيئًا
على الأقلِ بالنسبةِ لِي ـ
إحساسًا بالإمَاتةِ.
كمْ هىَ نقيةٌ وخفيفةٌ فكرةُ الفناءِ
أمّا الوجودُ فثَقِيلٌ ثقيلٌ مثلُ دابةٍ مُزعِجةٍ
لا تَعِي شيئًا ولا تكُفُّ عن الحركةِ.
وكأن الكفراوي يتحدث بلسان كل البشر المتألمين تحت وطأة جائحة فيروس كورونا، حيث اضطربت الأنفس بين بحور الخوف وإحصائيات الإصابات والوفيات اليومية في مختلف أنحاء الأرض، يأتي الحديث في القصيدة التي استمد منها الشاعر اسم ديوانه كاملا "مكان مشبوه"، رغم أن ذلك جاء في سياق قصيدة تحمل عنوان "نهاية مناسبة".
يقول محمد الكفراوي:
فُرصُ النّجَاةِ شِبهُ معْدُومةٍ
وعلى كُلٍّ مِنّا أنْ يَبحثَ
عنْ نِهَايةٍ مُنَاسِبَةٍ لِحَيَاتِهِ.
سبقَ أنْ قُلتُ لكُمْ
إنَّ الأرضَ مكانٌ مشبوهٌ
وغَيرُ آمنٍ بِالمرّةِ
فهِيَ فِي أحسنِ حَالاتِها
مليئةٌ بالأوحَالِ والأوبِئَةِ.
حاولتُ أكثرَ مِن مرَّةٍ أنْ أُقنِعَكمْ
بأنَّ أجسَادَكُم نَفسَها
عِبارةٌ عن براميلَ مِن الدمِ
قابلةٍ للانفِجارِ فِي أيّةِ لَحظَةٍ
وسَتُصبِحُ عاجِلًا أو آجِلًا
وجبةً دسِمةً للحَشراتِ والدُّودِ.
وتمتد كلمات الديوان كاملة من خلال حالة مزاجية واحدة، تتلبس الشاعر، حالة لا يبرز فيها إلا التشاؤم والسخط على الجميع، على الحياة والبشر والأصدقاء والعمل، وحتى الأحداث الكبيرة.
فلم يتردد في تخصيص قصيدة لأصدقائه القدامى، الذين رأى فيهم خسة ونذالة لم يكن يتوقعها، حتى في أتفه الأمور، مثل استعارة سيجارة.
ولا يخفي ميوله اليسارية وهو يهاجم من وصفهم بالـ"حثالة"، في قصيدة بهذا الاسم، ويوضح عمن يتحدث قائلا:
أفْسَدُوا الهَواءَ بِأنفَاسِهمُ القَذِرةِ
سَمّمُوا مَنابِعَ المِياهِ والأَنهَارِ
بِبُصاقِهمُ الدَّمَوي
فِي كُلِّ يَومٍ
يمُوتُ المِئاتُ مِنّا
لِيَعِيشَ وَاحدٌ مِنهُم.
لَوّثُوا أَطفَالَنا
عَلَّمُوهم أنْ يُحِبّوا البَنَادقَ والرشّاشَاتِ
بدَلًا مِن الأَحصِنَةِ وَعَرائِسَ الحَلْوَى.
ما أن تشرع في قراءة ديوان "مكان مشبوه"، ستكتشف أن من الصعب أن تتركه حتى تنتهي منه كاملا، لأنك ستجد نفسك أسير شخص مشحون بالألم، وبينما تستمتع أنت بالإنصات إلى هذا الكائن المتألم اليائس من خلال مفردات بسيطة ذات أثر عميق في النفس، لن تقو على تركه وكأنك تريد فهم حالته كاملة قبل أن تهم بمساعدته.
بل أنك ربما تخشى مفارقة الديوان ظنا منك بأنك إن فعلت فقد يغافلك الشاعر بالانتحار أو إيذاء نفسه كما يبتغي من فرط حالة الضجر التي تغشاه.
يقول الشاعر المصري:
تعِبتُ من المُشاهَدةِ
تَعِبتُ من التّنفُسِ
تعبتُ من رؤيةِ وجهى كلَّ يومٍ
يتقمّصُ صُورةً جديدةً
لرُوحٍ مفقودةٍ فِي أعماقِي.
يا للْضَجرِ.
ببُطءٍ شديدٍ..
يَمُرُّ الوقتُ
بِصَلفٍ وتعالٍ
تدورُ عجلةُ الأحداثِ
وكأنَّنا زوائدُ مشبوهةٌ
في خَلفيةِ المشهدِ.
في وقتِ المُغامَرةِ
كانتْ الحياةُ أشبهَ بِبالونةٍ ضخمةٍ ملونةٍ
تتوعَّدُ كُلَّ لحظةٍ بانفجارٍ مفاجئٍ.
بنُتفٍ ملونةٍ تغطِّي سطحَ الأرضِ
نسْتمتعُ بها
ثمّ نبدأُ من جديدٍ
فِي بناءِ حياةٍ أُخرى
مِلؤْها الضَّجرُ.
الباحث عن الموسيقى في هذا الديوان سيجدها في تناغم الحالة المزاجية المسيطرة على كل مراحل كتابة الديوان، كما سيكون من السهل أن تلمح سيمفونية بين ظل ناي حزين غير موجود، يتقاطع في انسجام مع آهات ألم أو صدى دموع تتكسر بين الحروف.
وكأن الكفراوي يدرك الحالة المزرية التي أوصلنا إليها، راح يكتب وصيته إلى شقيقه، فتراوحت بين محبة الأخ والترحيب بالموت والواقعية المزعجة مع تسام نحو المعاني الروحية الراقية التي تلامس حد الجنون.
يقول الكفراوي: