موجة التثاقف السياسي في الأوساط العامية الخليجية هذه الأيام مشابهة إلى حد كبير لموجة "التثاقف الأدبي" في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي
يبدو أن مسألة تحول غالبية التويتريين الخليجيين، صغيرهم قبل كبيرهم وجاهلهم قبل مثقفهم، إلى محللين سياسيين باتت ظاهرة تحتاج إلى دراسة معمقة وشاملة، لمعرفة إن كانت إيجابية تدل على ارتفاع مستوى الوعي والثقافة السياسية، أم سلبية تدل على انعدام المواهب والاهتمامات الفردية وذوبان الشخصية في ثقافة القطيع، وهو ما تناوله المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير".
فليس من الطبيعي انخراط صغار السن شبانا وفتيات في دوامة السياسة إنترنتياً وانشغالهم بها كلياً عن هواياتهم واهتماماتهم، منفصلين تماما عن مباهج الحياة التي تشغل معظم أبناء مرحلتهم العمرية في مختلف دول العالم.
مضت الأيام سريعة وضربتنا موجة التثاقف السياسي مجتاحة الأوساط العامية الخليجية وهو ما يجعلها برأيي ظاهرة تستحق الوقوف والدراسة كما أسلفت، لعلنا بذلك نفهم كيف نستفيد منها على الأقل
كما أنه ليس من الطبيعي أن ينصب جل اهتمام الطبيب والمهندس والمعلم وسائق التاكسي على ما يدور في الكونجرس الأمريكي وما يحدث في ميادين الاعتصامات في العراق ولبنان وطبيعة الخلاف الروسي الأوكراني، ومظاهرات هونج كونج وغير ذلك من أحداث سياسية لا علاقة لها بحياتهم.
موجة التثاقف السياسي في الأوساط العامية الخليجية هذه الأيام مشابهة إلى حد كبير لموجة "التثاقف الأدبي" في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حين قيل تندراً إن لدينا في الخليج شاعرا لكل مواطن، ويمكننا قياساً على ذلك أن نقول إن لدينا اليوم محللا سياسيا أو ربما اثنين لكل مواطن!
هناك موجة أخرى سادت مع بداية انتشار الإنترنت ودخوله معظم منازل الخليجيين مطلع القرن الحالي ثم خفتت بعد حرائق الربيع العربي هي موجة "التثاقف الحقوقي"، إذ أصبح معظم الشبان ناشطين حقوقيين مع أنهم لم يدرسوا القانون ولا يعرف أحدهم ماذا يتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وربما لم يسمع به من الأساس، حينها أصبح لدينا ناشط حقوقي لكل مواطن حتى إن بعض الخبثاء كانوا يتندرون على العدد المهول من السيدات اللواتي يدعين أنهن ناشطات حقوقيات بوصفهن بـ "الماشطات"!
وقبل 20 سنة من اليوم أو أكثر كنا في الخليج نتجنب الخوض في الأحاديث السياسية كونها مملة ومحفوفة بالأخطار أحيانا، ونستغرب من شدة اهتمام الإخوة السودانيين تحديدا بها، إذ إن الموجة ضربتهم قبلنا بزمن طويل، حتى إنه كان من النادر أن تحاور سودانيا آنذاك دون أن يحدثك عن خفايا انهيار الاتحاد السوفيتي ومستجدات السياسة الأمريكية، وإن كان راعياً للإبل لا تشكل السياسة أي أهمية في حياته، بل إننا كنا نندهش من أن معظم الإخوة السودانيين الذين يعملون بمهنة "راعي أغنام وإبل" تضيع جل أوقاتهم في الاستماع لإذاعة bbc من لندن وإذاعة مونتي كارلو بجانب إدمانهم على قراءة جريدة الشرق الأوسط.
مضت الأيام سريعة وضربتنا موجة التثاقف السياسي مجتاحة الأوساط العامية الخليجية وهو ما يجعلها برأيي ظاهرة تستحق الوقوف والدراسة كما أسلفت، لعلنا بذلك نفهم كيف نستفيد منها على الأقل.
نقلاً عن "عكاظ"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة