الفجل ليس فقط أرخص أنواع الخضراوات، إنه مؤشر اقتصادي أقوى من البورصة، لأنه يقدم مقياسا لاستقرار السوق، ورضاء المستهلكين.
جوهر مفهوم السياسة هو إصلاح حال الناس، وتحقيق الحياة الطيبة الكريمة لهم، وضمان الأمن والأمان لمجتمعهم، وتحقيق العدل بينهم، وهذا يعني أن كل مكونات النظام السياسي، من قمته إلى أدنى مستوى فيه؛ إنما وُجِدت لخدمة المواطن البسيط، لتسهيل حياته، وتحقيق السعادة له، ولأسرته، هذه هي الغاية، وما عاداها وسائل، رئاسة الدولة وسيلة، الوزارات وسيلة، المجالس التشريعية وسيلة، أجهزة الأمن وسيلة، الجيوش وسيلة، القضاء وسيلة.. إلخ، الكل وسائل، والغاية هي الإنسان البسيط، هي حياته، وحياة أسرته، هي سعادته، والبسمة المرسومة على وجهه.
إذن لدينا مقياس بسيط لتحديد نجاح أو فشل أي نظام سياسي، وهو قياس مدى انشراح وجوه المواطنين، وسعادتهم، إذا تحققت السعادة فالنظام السياسي ناجح بغض النظر عن كل آليات، وأصنام، وأوثان الديمقراطية.
إذن لدينا مقياس بسيط لتحديد نجاح أو فشل أي نظام سياسي، وهو قياس مدى انشراح وجوه المواطنين، وسعادتهم، إذا تحققت السعادة فالنظام السياسي ناجح بغض النظر عن كل آليات، وأصنام، وأوثان الديمقراطية.
الفجل ذلك النوع البسيط الرخيص من الخضراوات؛ كان يعد مع الخبز وبعض الجبن وجبة كاملة للبسطاء من أهلنا، وأحيانا يتربع على المائدة وحيدا مع بعض الملح المطحون بالكمون (الدقة)، وكان أحد مجاوري الأزهر الشريف في النصف الأول من القرن العشرين؛ من طلاب العلم القادمين من أقاصي الريف يصطحب معه العيش البلدي؛ من خبز أمه مجففا، يبلله بالماء إذا عض الجوع بطنه، ويأكله مع كمية كافية من الفجل، وبعدها يتكئ، ويتجشأ (يتكرع) منشرحاً سعيداً، ويكرر نفس الطعام في كل وجبة، ولا تعنيه بعد ذلك، الدنيا وما فيها، كل ما يريد هو أن يملأ بطنه بما يسكت صوصوة المصارين (الأمعاء).
وصاحبنا المجاور الأزهري تعود أن يشتري أربع حزم من الفجل (ويسمونها عندنا طن، أو ربطة) هي كافية لطعامه كل يوم، فقد ضبط عدادات بطنه، وسعة معدته على هذه الحزم الأربع، وكان يدفع فيها "تعريفة "(خمسة مليمات)، والعدد أربعة يسميه أهلنا (طورة) وهو عدد ثابت في كل شيء، كأن له قداسة، وفي يوم من الأيام ذهب صاحبنا المجاور لبائعة الفجل (أم السعد)، ووجدها قد رفعت الأسعار بأسلوب سياسي ذكي جداً؛ استفاد منه السادات بعد انتفاضة الخبز ١٩٧٧، وصار هو سياسة مبارك الدائمة حتى عزله، هذا الأسلوب يقوم على المحافظة على السعر مع تقليل الكمية، أو إنقاص الوزن، فوجد أم السعد تبيع ثلاث حزم من الفجل بالتعريفة، وهنا اهتز النظام المعيشي لصاحبنا، واختلت كل موازين حياته، وذهب إلى بيته غاضبا وكتب:
يا أمَ سعدٍ ما لفجلِك غالٍ؟ … تَبْتْ يداكِ، وزوجُكِ الفجالِ
أأنتِ أمُ السعدِ...! فمن إذن ... أمُ النحوسِ، وحيةُ الأدغالِ
لو جاعَ سعدٌ مثل مجاعتي … لفجعتِ مثل فجيعتي في حالي
يا أيها الحكامُ هبوا، والحقوا … فغداً يُباعُ الفجلُ بالمثقالِ
(المثقال نصف تعريفة 2.5 مليم)
فرغم لوعة صاحبنا المجاور الأزهري على نقصان ربع غذائه اليومي بسبب قرار مفاجئ من حكومة أم السعد؛ إلا أن هذه اللوعة، وتلك المصيبة لم تشوش عليه تفكيره، ولم تدفعه إلى سلوك أفعال انفعالية كتنظيم مظاهرة مثلا تهتف بسقوط أم السعد، أو الهجوم على فرش الخضار الخاص بها بجوار حائط الأزهر، وإنما ذهب إلى دفتره وقلمه، وكتب لنا أبياتا من الشعر تبين مدى عمق فهمه للقضية، وأبعادها، وأنها مجرد خطوة أولى من المؤكد سوف تتلوها خطوات، لذلك استنجد بالحكام، وطالبهم بكل حسم أن يهبوا, وينتفضوا، ويسرعوا قبل أن ينهار النظام الاقتصادي، وتدخل البلاد في أزمة طاحنة إذا ما قررت أم السعد وحزبها الحاكم أن تبيع الفجل بالمثقال، أي بنصف تعريفة.
قد يظن البعض أن هذا الكلام ينطوي على سخرية أو فكاهة، والحقيقة أن معظم المفكرين السياسيين في العصور الإسلامية المختلفة مثل ابن رضوان المالقي صاحب كتاب "الشهب اللامعة في السياسة النافعة"، وتلميذه ابن خلدون في المقدمة، وتلميذ ابن خلدون المقريزي في كتابه "كشف الغمة في إغاثة الأمة"، ثم محمد بن خليل الأسدي في كتاب "التيسير والاعتبار"، جميعهم ربط أسباب تدهور المجتمعات بظاهرتين اقتصاديتين هما: الغش في السلع من خلال إنقاص الوزن، أو الحجم، أو تغيير المواصفات، وزيادة الأسعار، واعتبروا ذلك سببا رئيسيا في تدهور النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يقود إلى تدهور النظام السياسي، وانهيار الدول.
الفجل ليس هو فقط أرخص أنواع الخضراوات، إنه مؤشر اقتصادي أقوى من البورصة، لأنه يقدم مقياسا لاستقرار السوق، ورضاء المستهلكين، وسعادة المجتمع، وفي عصرنا هذا قد يكون ساندوتش الفول هو المقياس، لأنه غذاء جماهيري واسع، يستهلكه جميع أفراد المجتمع، لذلك ينبغي على الحكومة أن تبدأ من طبق الفول، لأن “قِدرة” الفول لا تقل أهمية من الناحية السياسية عن المفاعل النووي في الضبعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة